مجلة طلعنا عالحرية

هبّة القدس توحّد شعب فلسطين من حيفا إلى غزة

لا أحد يستطيع التكهّن بتطورات الوضع على ضوء المواجهات الفلسطينيةـ الإسرائيلية، التي من أهم ميزاتها هذه المرة دخول فلسطينيي 48 بقوة في مشهد الصراع الجاري، ثم دخول غزة، من خلال الصواريخ التي تمتلكها فصائل المقاومة في القطاع المحاصر، والتي قصفت عديداً من المدن الإسرائيلية في الأيام الماضية.
وكانت بداية المواجهات في مدينة القدس، رداً على محاولة إسرائيل تكريس سلطتها على المدينة المقدسة، وتغيير طابعها الديموغرافي، سيما انتهاكها حرمة المسجد الأقصى، ومحاولتها وضع بوابات عند باب العمود، ومحاولتها اقتلاع الفلسطينيين من مساكنهم في حي الشيخ جراح.
ومعلوم أن مدينة القدس ظلّت بمثابة بؤرة، أو مفجرة، لعديد من الانتفاضات والهبّات؛ يأتي ضمن ذلك اندلاع هبة النفق (1996)، نتيجة قيام إسرائيل، في أول عهد لبنيامين نتنياهو في رئاسة الحكومة، بحفر نفق تحت المسجد الأقصى، وقد نجم عن هذه المواجهات مصرع 65 فلسطينياً مقابل 17 إسرائيلياً، وهي هبة شاركت فيها قوات الأمن الفلسطينية، وكانت أول مواجهة فلسطينيةـ إسرائيلية بعد اتفاق أوسلو وإقامة السلطة (1993). وفي العام 2000 تسبب انتهاك أريئيل شارون حرمة المسجد الأقصى، بحماية قوات الاحتلال، في اندلاع الانتفاضة الثانية (2000 ـ 2004)، التي نجم عنها مصرع حوالي 5000 من الفلسطينيين مقابل 1040 من الإسرائيليين. وفي العام 2015 حصلت مواجهات دامية بسبب قيام مستوطنين بحرق منزل عائلة الدوابشة، وحرق الطفل محمد أبو خضير. وفي الأعوام التالية 2017 و2018 شهدت القدس هبة فلسطينية جديدة ضدّ شروع سلطات الاحتلال بنصب بوابات إلكترونية وكاميرات مراقبة عند مداخل المسجد الأقصى، وأفضت تلك الهبة إلى إجبار سلطات الاحتلال على وقف هذا المشروع.
وفي التاريخ الفلسطيني كان حصل مثل ذلك في العام 1929، فيما عرف بثورة “البراق”، إذ شهدت القدس وباقي المدن الفلسطينية مواجهات دامية بين الفلسطينيين والمستوطنين اليهود المتطرفين، الذين اعتبروا أن “حائط البراق” (الجزء الجنوبي من الجدار الغربي للقدس)، الذي يسمونه “حائط المبكى”، ملكهم وأنه جزء من “هيكل سليمان”، وقد نجم عن تلك المواجهات مصرع 116 من الفلسطينيين مقابل 133 يهودياً؛ إذ تدخلت سلطات الانتداب البريطاني لصالح المستوطنين وقتها. وكانت حصلت مجزرة في باحات المسجد الأقصى لدى محاولة مجموعة من المستوطنين اقتحام المسجد الأقصى (تشرين الأول/ أكتوبر من عام 1990)، لوضع حجر الأساس لبناء الهيكل الثالث، بحماية قوات الجيش الإسرائيلي، حيث تصدى لهم الفلسطينيون، ما أدى إلى مصرع 21 منهم.
ومعلوم إنه يؤخذ على القيادة الفلسطينية، التي ظلت تولي القدس مكانة خاصة، في أطروحاتها المتعلقة بالتحرير أو بالتسوية، بخاصة مع اعتبارها عاصمة لدولة فلسطين القادمة، رضوخها في اتفاق أوسلو (1993)، وتأجيل البتّ بمصير هذه المدينة (مثل قضية اللاجئين والحدود والمستوطنات)، كما قدمنا. وفي الواقع فإن هذا التأجيل، مقابل اعتراف إسرائيل بمجرد سلطة فلسطينية، هي في حدود الحكم الذاتي، كان في صالح إسرائيل، بحسب ما بينت التجربة، إذ استغلته لتكريس وجودها وهيمنتها على حياة الفلسطينيين وأراضيهم، وفي تعزيز الاستيطان وتهويد القدس، وضمن ذلك وضع مسألة الانتخابات في القدس رهناً بموافقة إسرائيل، كما شهدنا مؤخراً.
في هذا الإطار فإن التعاطي الفلسطيني مع مدينة القدس يشتمل على ثلاثة مسائل: الأولى، تتعلق باعتبار القدس كمدينة مقدسة يقع فيها المسجد الأقصى، أولى القبلتين وثالث الحرمين، وكمدينة مقدسة لكل الأديان السماوية. والثانية، تتعلق بالبعد الوطني- السياسي، إذ يتكثف الصراع في هذه المدينة، التي تعتبرها إسرائيل عاصمة لها، سيما مع محاولاتها تغيير طابعها الديموغرافي، وتغيير معالمها، وتعزيز استيطان اليهود فيها. والثالثة، في الجانب الحقوقي المتعلّق بكشف سياسات إسرائيل ومقاومتها، بخصوص مساعيها الدؤوبة للتضييق على فلسطينيي القدس، لتهجيرهم منها، والسيطرة على بيوتهم وأراضيهم، وتبنيها سياسة هدم المنازل. وكانت أعلى تجليات الكفاح الفلسطيني من أجل القدس تجلّت في الانتفاضة الأولى (1987ـ1993)، إذ أضحت بمثابة عاصمة فعلية للفلسطينيين ومركزاً قيادياً لانتفاضتهم، سيما مع وجود القيادة الرسمية في الخارج (وقتها)، ومع بروز شخصيات مقدسية ذات مصداقية، كان على رأسها المرحوم فيصل الحسيني.
تبعاً لمكانتها تلك، فإن الصراع على القدس أثار فلسطينيي 48 الذين هبّوا من كافة مدنهم وقراهم للدفاع عنها، في تحدٍّ صارخ لإسرائيل، وفي تطور بارز، وبمشاركة واسعة لم يُشهد مثلها من قبل، بما يمكن اعتباره كسراً للصورة النمطية التي أرادتها لهم إسرائيل، التي اعتقدت أنها طوعتهم، وفيما يمكن اعتباره مدخلاً لانخراطهم في إطار المعادلة الوطنية الفلسطينية، التي استُبعدوا عنها طوال العقود الماضية، بدعوى الحفاظ على مواطنيتهم في إسرائيل. أيضاً، فإن قضية الدفاع عن القدس حركت فصائل المقاومة في قطاع غزة، التي وجدت نفسها معنية بفرض معادلات جديدة، عبر التدخل في المواجهات من مدخل القصف الصاروخي الذي طاول مدناً إسرائيلية، بأكثر من أي فترة مضت، وبالنتيجة فإن مشاركة 48 والقصف الصاروخي أديا إلى خلق معادلات جديدة، يبدو من المبكر التكهن بمداها أو بتداعياتها، وكيفية الرد الإسرائيلي عليها.
قصارى القول، فإن الفلسطينيين في مختلف المجالات يواجهون تحديات صعبة، في ظروف صعبة، سواء إزاء التحديات التي تفرضها السياسات الإسرائيلية الرامية إلى تطويعهم، والحفاظ على الوضع القائم، مع تعزيز الاستيطان، ونظام التمييز العنصري ضدهم، أو إزاء وجود سلطة، في ظل سلطة الاحتلال، تعيق أي إمكانيات لإحداث تغيير سياسي فلسطيني حقيقي، وهو ما تم التعبير عنه مؤخراً في تأجيل العملية الانتخابية.

Exit mobile version