نعم قلة هم من استطاعوا الخروج عما هو مباشر من تصورات الناس وأوهامهم، وفي لحظة الخروج بدأ بناء المعرفة الصاحية “المعرفة الأنجع، المعرفة الأعمق، المعرفة الأوسع، المعرفة الأجدى، والمعرفة التي تنتج معرفة باستمرار، تجدد نفسها بالأسئلة”.
هذه المعرفة التي أرادها المفكر هاني فحص، الذي رأى فعلا ما هو خطير لدى الناس، هوياتهم واعتبارهم أن تلك الهوية هي الكينونة والجوهر. رأى عبر هذه الهويات الساكنة والثابتة تحول البشر في مجتمعاتنا الى جزر معزولة، متنافرة، ومعادية لبعضها البعض، وهاجسها هو السلطة “الهوية الحصرية، الهوية الاختزالية، هاجسها السلطة، والسلطة تقوم على إلغاء الآخر، وعلى نفيه”.
هذا الالتقاط الرائع لأزمة لازمتنا قرون طويلة، التقاط جاوز الوصف ليكون نقدا، والنقد هو بداية تلمس الحل. وملامح الحل عند فقيدنا ليست أبدا بنكرانه عن الناس هوياتهم ومسلماتهم وثوابتهم: “أنا لا أريد أن الغي الثوابت، العكس من لا ثابت له، لا متغير له”، بل بالضبط عبر الانفتاح على الآخر.
ليس الانفتاح هنا من باب المجاملة أو المواربة.. بل هو حيثية معرفية عميقة “رأيي أن الهوية صيرورة؛ لأنها مركبة، البعد الواحد قاتل في الفرد وفي الجماعة، والآخر شرط لمعرفة الذات، الآخر مكون في الهوية؛ أي آخر”.
عبر الانفتاح على الآخر نتحول من الهوية البسيطة الى الهوية المركبة التي يصنعها الآخر “الآخر ليس عابرا في وعيي وتكويني، الآخر المختلف هو ساكن ومقيم في عقلي، ومقيم في قلبي، هو سؤال يلزمني يوميا أن أتعرف إلى ذاتي، وأن أفكك الصورة النمطية لذاتي عن ذاتي، وأن أؤهلها لأن تصبح شرطا للآخر؛ فهذه هي الهوية المركبة”، والهوية المركبة هي مشروع كبير هاجسها الدولة لأنها عقد بين الذات والآخر، ليس عقدا تبرره المنفعة أو المصلحة انما عقدا شرطيا، بمعنى لا وجود لي دون الآخر، أو بمعنى أصح.. إن سعيي لإنهاء الآخر هو بالضبط اعدام لذاتي.