ربما لا يتاح لغالبية الفنانين معايشة الموت والألم كما عايشته التجارب الفنية السورية.. فمن تحت النار والركام والبيوت المدمرة.. ورغم كل شيء، تنطلق حناجر تغني.. وأصابع تعزف.. وريشة فنان يرسم الموت حلماً بالحياة.. يرسم القيد حلماً بالحرية.
الفنان هاني عباس الذي كان يحلم بفلسطين من مخيمه المحاذي لمدينة دمشق.. صار يحلم بالمخيم بعد أن أجبره الموت كما مئات الألوف على الهجرة من الوطن إلى شتات لا تُعرف نهايته..
“تحكيليش عن الوطن … احكيي عن الناس كيف عايشة … كم أم بلا ولد و كم ولد بلا اب وكم عيلة بلا بيت وكم بيت بلا قذيفة وكم قذيفة بلا هدف وكم هدف بلا أرض وكم أرض بلا خطوات … وكم خطوة بلا قدم … وكم قدم بلا جسد … وكم جسد بلا روح …”
هاني عباس يرسم بالكلمات كما يرسم بريشته.. هاجسه الإنسان يحمل همه وحلمه أينما حلّ، ويواجه قصف الطائرات بالسخرية.. وقسوة الجندي بالوردة.
ولد الفنان هاني عباس عام 1977 في مخيم اليرموك بدمشق، وبدأ الرسم منذ الصغر ليستقر لاحقاً على رسم الكاريكاتير، حيث أقام أول معرض له أواخر التسعينيات. نشر رسومه في بعض المجلات ثم انتقل بعدها للاحتراف والنشر في الصحف المحلية والعربية.
فاز عبّاس بعدة جوائز دولية ومحلية وكان عضواَ مشاركاً في لجان التحكيم لعدد من مهرجانات الكاريكاتير العربية والدولية.. ومن أبرز الجوائز التي نالها جائزة رسام الكاريكاتير الصحفي للشجاعة للعام 2014 جنيف، جائزة حرية الصحافة العالمية الدوحة 2013، جائزة الرسامين المحترفين في سوريا لثلاث دورات، جوائز فخرية وتقديرية من عدة مهرجانات دولية، بالإضافة إلى عضوية لجان التحكيم في مهرجان سوريا الدولي للكاريكاتور ثلاث مرات، ومهرجان ناجي العلي الاول، ومهرجان غزة الدولي للكاريكاتير، ومهرجان (بديل) للكاريكاتير.
عن تجربته الابداعية في المخيم خلال الثورة السورية، يقول هاني عباس: “كان طبيعياً بالنسبة لي أن أكون مع الناس، وأن اقف الى جانبهم في مطالبهم ورفضهم للظلم والقمع والتضليل، وأن أكون مع ابسط حقوق الانسان في ان يتكلم وأن يعبر عن رأيه”.
ويضيف: “في المخيم، وقبلها في ريف دمشق، كنت أوثق الألم والوجع يوماً بيوم ولحظة بلحظة.. لم يكن الأمر سهلاً وقتها، وخاصة عندما بدأ القصف والحصار. بعد أن وجدنا أنفسنا وجهاً لوجه مع القذائف وآليات القمع التي بدأت بالعصا لتفريق المتظاهرين وانتهت بقصف الطيران… تلك اللحظات المليئة بالمخاطر والمليئة بالوجع اليومي تحت القصف… ومشاهدة البشر يتحولون الى أشلاء… انتظار الموت في أية لحظة… فقدان الأصدقاء… الجنون الذي يملأ المكان…
حينها كانت رسومي تظهر أكثر وضوحاً وأكثر تأثيراً، وتوصل صوت الناس البسطاء الذين يموتون هناك.. الكثير ممن وقفنا معاً ووقفوا معي ساعدوني لأكون اليوم هنا… واتكلم عن وجعهم”.
لا يستطيع المتابع لصفحة الفنان هاني عباس الا أن يذهل من تلك الغزارة في انتاجه الفني، ليبزغ في الذهن السؤال: هل بإمكان الفنان المهاجر مجاراة الالم والمعاناة والتعبير عنها في ابداعاته، وما الفرق بين التجربتين في الداخل والخارج؟
هاني الذي يحمل تعب والام اوطانه في قلبه لا يعيقه بعد أو رحيل بعد رحيل عن رسالته النبيلة، نقرأ على حائطه الافتراضي “مرة أخرى … الرحيل اليوم… الى المنزل الرابع عشر… (بقجتي … وطني)”
لكن يبدو أن السؤال، ومن دون قصد، يستدعى إلى الذهن تلك المزايدات التي تحفل بها المنابر ومواقع التواصل الاجتماعي حول أحقية الداخل على الخارج.. والتي تدفع ناشطي الخارج إلى موقع الدفاع على الغالب “هنا في المهجر لا زلت ارسم بنفس النفس وكأنني لا زلت في الوطن”… يجيب هاني، “وذلك رغم كل الاساءات التي توجه عادة إلى اللذين غادروا او من هم خارج البلاد… هل يمكن أن نطلب ممن هم خارج فلسطين من أفراد أو منظمات أو دول أن تصمت و أن لا تتحدث عن فلسطين لمجرد أنهم خارجها؟؟ على أية حال وبالنسبة لي ما أقوم به هو من أجل الناس فقط وليس لأي فصيل أو تجمع أو حزب أو… الخ”
ويضيف: “بالنسبة لي وكثر يعرفون أنني لم ولن أتخذ الرسم كمهنة أجني المال من وراءها، بل هي رسالة أقوم بها بشكل طوعي وهي مسؤولية متعبة. لكن يجب ان استمر بها.. ما أعيشه الآن هو عمر اضافي بعد ان خرجت من سوريا… وقد كرسته لأتابع ما بدأت به وابقى مع الناس.. و ان لا أرسم الا الشي الذي أحس به”…
مثله مثل الكثيرين ممن هاجروا مرغمين، لا يعتبر الفنان هاني عباس الهجرة خلاصا فرديا، حتى فرحه المؤقت يبقى غريبا واستثنائيا وسط ركام احزان من أحب ومن انتمى اليهم.
“للأسف أي فرح بسيط أشعر به أو أشاهده ينقلب عكساً عند قياسه بمعاناة الناس وخاصة النازحين بالداخل السوري أو في الخارج… في المخيمات أو حتى اللذين وصلوا إلى أوروبا.. فالأمور ليست سهلة كما يظنها البعض.. تختلف حدة الصعوبات من مكان لمكان ولكن في الحقيقة كلها مأساة، سأشعر بالفرح عندما ينتهي كل هذا الموت والوجع اليومي وتتحقق العدالة”
رغم نبرة الحزن في كلماته يُبقي الفنان هاني عباس باب الحلم والامل مفتوحا على جيل جديد قد يتفتح في عالم أقل قسوة “كل شيء يثير مشاعر الحزن والألم… لا أخبار سعيدة منذ زمن… اتمنى أن ينتهي كل هذا الألم.. وأن اتفرغ للرسم للأطفال بعيدا عن كل شيء”.
كاتبة صحافية وناشطة سورية من الجولان المحتل، نائب رئيس تحرير طلعنا عالحرية.