هيمى اليوسفي
قد تشبه هذه القصّة الكثير من القصص إلّا أنها لا تشبه أيًا منها، فأنا يكفي لي أن أسمع الاسم، أو ألتقي بشاعر، أو أقرأ قصيدة، أو حتى؛ أن أعرف بولادة قصة حب في ظروف صعبة؛ لتبتلعني دوامة الذكرى فأعود إليه. يومها سافرت من حلب إلى دمشق لحضور تأبين “محمود درويش”، ولا أذكر إن كانت هناك فترة استراحة أو أن أحد الشعراء الحاضرين أطال الحديث، فمللت وخرجت من القاعة قليلًا، وهناك التقيته للمرة الأولى. أشعل سيجارة وسألني “هل تصدقين موته؟”، لا أذكر بماذا أجبته، لكنني أذكر أنه قال “جميعهم يتحدثون عنه ويرثونه الآن وهو يضحك علينا، بالمناسبة؛ الشاب ذو القميص الوردي الذي يجلس إلى جانبك محظوظ، لكنه كثير الكلام”.
كان طالبًا في السنة الأخيرة في قسم الأدب العربي، وكنت سأبدأ سنتي الثالثة في كلية الهندسة ضائعة بين دراستي العلمية وشغفي بالأدب، وكان البوصلة التي أحتاجها لأتجنب العثرات. “خطوة أخرى ستكفي كي أصدق أن في عينيك منفى وبلاد” بهذه القصيدة اعترف لي بمشاعره دون حتى أن ينطق كلمة حب واحدة، وغمرني من جهاتي كلها رغم مئات الكيلومترات التي تفصلنا (أغيد) علمني الحب والجنون والتمرد والكتابة، علمني التدخين والغيرة والشوق والخوف من الغياب (أغيد) هو خالق الإنسانة التي صرتها اليوم. ولأنه كان متمردًا عنيدًا وحرًا، وضع القدر في طريقه أستاذًا جامعيًا ليعرقل تخرجه أكثر من مرة، فيقرر الاستسلام ويلتحق بالخدمة الإلزامية لأنه لا يريد السفر.
طموحنا كان كأي عاشقين في ذاك الزمان، بيتًا لحبنا بشرفة يملؤها الحبق نطل منها على “الشام” كل صباح، ودواوين شعر سيهديني إياها، زارني في شباط 2010 في حلب، جاء قبل عيد الحب بأسبوع لأنه لن يستطيع تغيير موعد إجازته، بدا مختلفًا، أخبرني أنه لم يعد يستطيع احتمال ذلك الذل أكثر، وكنت أحاول أن أحمل عنه القليل من التعب، همست له “لكنني أحببت سمرتك” وفاجأته بهديتي، كنت قد جمعت كل ما استطعت من قصائده وطبعت نسختين منها واخترت عنوانًا للديوان وصورة غلاف، أهديته حلمًا صغيرًا، ووعدًا بأنني أنتظر أن تملأ نسخ دواوينه رفوف المكتبات. قبلاتنا المسروقة، أغنياتي، وقصائده، وثقتها طرقات دمشق وحلب وتذاكر السفر الكثيرة بين المدينتين، وصورة وحيدة جمعتنا سويًا في المركز الثقافي بالعدوي يوم أمسيته.
ولأننا كنا “زوج مجانين” مجبرين على أن نكون بعيدين دومًا، كنا نختلف ونتجادل ونقرر إنهاء العلاقة بعد مكالمة متوترة، ثم نموت من الشوق بعد بضع ساعات فنبكي ونعود ونقول إننا أقوى من كل ذلك، مصيبة تلك العلاقة كانت أنه علمني التمرد ثم أصابه البعد بمرض الغيرة الذي تطور إلى شك يشعل النار عند أقل احتكاك بعد خلاف كبير، انفصلنا، فقدت توازني وشخصيتي، وضعت في دوامات الكآبة والعزلة، هو لم يتوقف يومًا عن حبي وظل يؤكد لي في كل رسالة أو مكالمة أنني سأكون له “حتى لو تزوجت كل رجال الأرض، سأعود يومًا إليه ليموت في حضني” حين أسأل نفسي اليوم عن سر قسوتي آنذاك؛ أعجز عن الإجابة، ربما كان عنادي وتمسكي برأيي ونفوري من غيرته!
اشتعلت الثورة، وأنا أعرف مسبقًا أنه ثائر من قبل الثورات، ومتمرد قبل أن يأتي الربيع، وحر أكثر من أي إنسان عرفته، خوفي عليه كان ينهكني، لن يطلق النار! أنا أعرفه، من المستحيل أن ينصاع للأوامر، أوان تسريحه قد حان، لكنهم قرروا الاحتفاظ به، أرسل لي ليخبرني أنه لا يستطيع الاحتمال أكثر، ثم استطاع أن يتصل بي مرة ليخبرني أنه في حمص، وأنه كما أعرفه ولن يتغير لكنه ينتظر “الفرصة” في 30 أيار 2012 جاء اتصاله، “قضي علي” هذا ما قاله، كانوا يحرسون باب مهجعه وسيأخذونه نحو المجهول في الصباح “لم يتغير شيء.. ستظلين الروح، لا تخافي، فخوفك يوجع قلبي”.
لم أنم ليلتها ولم أعرف كيف أتصرف ولا ماذا افعل، في صباح اليوم التالي كانت آخر رسائله تصلني “لا بقا تتصلي ولا تبعتي شي” ثم ابتلعه الغياب، لم أوفر جهدًا في محاولة معرفة أخباره أو مكانه أو طريقة لمساعدته، دون جدوى! استطعت في أواخر عام 2013 أن أعرف أنه في سجن القابون العسكري، وأن عائلته خارج البلاد ولا يريدونني أن أنشر قصته أو قضيته، احترمت رغبتهم وقررت أن ألجم خوفي عليه بالصمت، الخوف من أن تؤذيه أية خطوة أقوم بها؛ جعلني عاجزة عن فعل شيءٍ إلا محاولة تقصي أخباره التي كانت عملية شبه مستحيلة، كل المقربين مني يعرفون (أغيد) وقصتنا الغريبة، واعتقاله، وقصائده، وعجزي وانتظاري، يعرفون أنني أحببت بعده، ويعرفون أن وجوده “معي” شيء آخر مختلف عن كل مألوف في الحب والعلاقات، كنت كل فترة أسأل عنه دون أية أخبار جديدة، أكتب اسمه على محرك البحث في محاولة يائسة لأجد خبر إطلاق سراحه، أو أي خبر آخر عن مكان اعتقاله، ولأنه تعود دائمًا -وحتى بعد انفصالنا- أن يكتب لي شيئًا يوم ميلادي؛ فمن المستحيل أن يمر هذا اليوم دون أن أتذكره، 14 نيسان 2015 كتبت اسمه الثلاثي وضغطت زر البحث، فقدت كل حواسي في تلك اللحظة، تجمدت أمام الخبر “استشهد تحت التعذيب”!
لا أعرف كم من الوقت ظللت أبكي أمام الخبر دون أن أجرؤ على فتح الرابط لقراءته كاملًا، أيقظتني رغبتي بالتشبث بأمل أخير “تشابه أسماء”، فتحت الرابط مرة أخرى، دققت اسم الأم وتاريخ الميلاد ومكان الاعتقال، كل المعلومات صحيحة، وصورته مبتسمًا تتصدر الخبر! لم أخرج من الهوّة تلك إلا بإقناع نفسي بعدم التصديق، أخاطبه يوميًا “إذا كنت لم تصدق موت درويش بعد أن نعاه العالم كله بجنازة ضخمة؛ كيف تريدني أن أصدق خبر موتك؟”.
الشعراء لا يموتون، وأغيد شاعر يعرف موهبته كل من قرأ كلماته، ترك عندي مخطوط ديوانه الأول وائتمنني على حلمه كما لو أنه عرف مسبقًا أن شيئًا ما سيحدث، وها أنا أكتب عنه اليوم، لا لأزيد قصص الشهداء واحدة فأنا لا أصدق غيابه، أكتب عنه عاشقًا مجنونًا لأذكّر نفسي أنني بطلة قصة حب تشبه الروايات، أنني كنت حبيبة شاعر لا حبيبة شهيد، أكتب فقط لأقول إنني سأنتظر قليلًا عودته، فإن تأخر، سأبحث عن ناشر للديوان وسأحكي عنه للجميع لأفاجئه بأنه أصبح مشهورًا حين يعود.
مجلة مستقلة، تعنى بشؤون الثورة السورية، نصف شهرية، تطبع وتوزع داخل سوريا وفي عدد من مخيمات اللجوء والتجمعات السورية في الخارج