سبق النظام السوري الجولة الثالثة لمفاوضات جنيف بقصف عنيف على كل من بلدتي بالا في الغوطة الشرقية ومعرة النعمان في إدلب، بهدف واضح ووحيد: تدمير المفاوضات السياسية عبر حشر الهيئة العليا للمفاوضات في مأزق كبير أمام جمهورها وإظهارها بمظهر المفاوض مع قاتل الشعب السوري. وعليه، فعلى الهئية مغادرة المفاوضات، وفي حال استمرار مشاركتها، فسيتم صرف الإنتباه عن الموضوع الأساسي للمفاوضات (هيئة الحكم الانتقالية والمرحلة الانتقالية) والاكتفاء بالتركيز على وقف الغارات الجوية للنظام وإجراءات بناء الثقة.
انهارات الجولة الثالثة من المفاوضات بأسرع مما كان ينتظر، وغادرت الهيئة العليا المفاوضات مدينة جنيف. لكن غارات النظام الجوية توسعت وامتدت لتشمل غارات روسية تستهدف مدينة حلب القابعة تحت قصف جوي مدمر منذ أكثر من أسبوع. فما مغزى هذا القصف وأهمية صمود حلب في وجه حملة النظام؟
يرتبط التصعيد العسكري الدموي في حلب بتعرقل التوصل إلى اتفاق سياسي بين الولايات المتحدة وروسيا بخصوص عدة ملفات عالقة بين الطرفين، من بينها -ولكن ليس أهمها- الملف السوري. تنتظر روسيا اتفاقاً شاملاً مع الولايات المتحدة ينهي العقوبات الغربية على روسيا ويعترف بدور روسي في أوكرانيا وينهي ملف الدرع الصاروخية الأمريكية في أوروبا الشرقية ويحل الملف السوري. فشل التوصل إلى توافق شامل (اتفاق رزمة) دفع روسيا إلى التصعيد العسكري في سوريا: من جهة إحراج الرئيس أوباما المغادر للبيت الأبيض قريباً عبر إفشال مشروع أوباما بتوقيع اتفاق سلام سياسي في سوريا قبل مغادرته البيت الأبيض. ومن جهة أخرى تعزيز موقع النظام السوري عسكرياً، وبالتالي سياسياً، استعداداً لجولة المفاوضات القادمة في جنيف.
الجانب الأميركي لم يكن أفضل من روسيا؛ فالولايات المتحدة التي لم تستطع لجم روسيا في حلب، عمدت إلى مجاراتها في حملتها العسكرية على حلب، مراعاة لصورة الولايات المتحدة التي ستبدو ضعيفة للغاية بعد أن ضربت موسكو بالاعتراض الأميركي عرض الحائط. أيضاً، تستثمر الولايات المتحدة القصف الروسي لحلب لتعكير علاقات روسيا بالدول العربية والإقليمية في المنطقة، وتزيد في تشويه صورة روسيا والرئيس بوتين عالمياً، وبالتالي تعزز الموقف الغربي بمعاقبة روسيا ومحاولة حماية الحلفاء في أوروبا الشرقية.
لكن الأمر الذي لم يحسب له الطرفان الروسي والأميركي حساباً هو الصمود الأسطوري لمدينة حلب وسكانها. فالإصرار الحلبي على البقاء في حلب والتمسك بالمناطق المحررة (شبه انعدام لعمليات نزوح جماعية)، والعمل الميداني المنظم لرجال الدفاع المدني، وإعلان استمرارهم في العمل في حلب بعد أن تم استهداف أحد مراكزهم بصواريخ أرض-أرض بشكل مباشر، والتغطية الإعلامية المهنية التي رافقت حملات القصف الجوي مع ما تم خلالها من إظهار الطابع المدني للضحايا والطبيعة العشوائية للهجمات الجوية، كلها ساهمت بتحريك طاولة المفاوضات الأميركية-الروسية المتعرقلة.
فنظراً لحملة التضامن الإعلامية وما تبعها من تغطية إعلامية دولية كبيرة، أُجبرت الأطراف الدولية على التواصل فيما بينها وتلييّن مواقفها قليلاً، فتراجعت روسيا عن موقفها الأولي برفض إدخال حلب في الهدنة، إلى هدنة جزئية، ثم إلى وقف إطلاق للنار لمدة 24 ساعة، وتراجعت الولايات المتحدة عن تصريحاتها المؤيدة لقصف حلب وعمدت إلى توضيح موقفها الرافض لاستهداف المدنيين في حلب، وانتقل وزير الخارجية الأمريكي جون كيري إلى جنيف ليلتقي وزراء خارجية السعودية والأردن لبحث ما يحصل في حلب.
لم يوقف الصمود الحلبي الغارات الجوية التي تشنّها روسيا برفقة النظام السوري بشكل كلي، لكنه أرسل رسالة واضحة للجميع بأن استغلال حلب في معارك كسر العظم السياسي بين الدول العظمى ليس بالأمر السهل أولاً، وأن كلفته السياسية ستكون كبيرة لكل من الرئيسين أوباما وبوتين، وأيضاً لمبعوث الأمم المتحدة ستيفان دي مستورا الذي وجد أن مفاوضاته بدأت بالانهيار بعد القصف الجوي لحلب.
تستعد حلب وسكانها لمواجهات طويلة الأمد، قد تتضمن حملة عسكرية برّية وحصاراً عسكرياً ومحاولات تجويع وتركيع شبيهة بما حصل في مناطق سورية أخرى. لكن الناظر إلى سكان حلب ورفضهم المغادرة والإصرار على البقاء في مدينتهم، والهزيمة السياسية التي ألحقتها حلب بروسيا مؤخراً، يمكنه التكهن بمصير حملات النظام العسكرية.
*محام وناشط سوري مقيم في الولايات المتحدة