رياض درار
دارت مؤخراً عواصف كثيرة في محافل متنوّعة حول قضية المشاركة السياسية للمرأة، وعليه نعيد طرح السؤال الإشكالي حول “الإسلام والمشاركة السياسيّة للمرأة” الذي كُتبَ فيه الكثير لكن أغلبنا يُفضّل الاستناد إلى تصوّرات شائعة مغلوطة تُبعد المرأة عن المشاركة السياسيّة بحجة واهيّة أنّ هذا الإبعاد يأتي تماشياً مع الإسلام. وللنظر في قضية المشاركة السياسية للمرأة علينا ألاّ نكتفي -فقط- بما قدمه الفقهاء فيما يعرف بالفقه التقليدي، فشأن المرأة في هذا، شأن بقية الأمور التي تُحْبس في إطار التقليد ومآلات المُفسّر الأول للنص الديني.
تبدأ المشكلة من التناسي المقصود حيناً أو العفوي حيناً آخر لكون التفسير في القرآن هو اجتهاد بشري، فيه كل ما يلحق بالجهد البشري من قصور، فضلاً عمّا حُشِرَ فيه من أفكار، ونُقُول، وخرافات ذات معرفة بشرية مرحليّة، جرى إضفاء طابع القداسة عليها دون وجه حق. وبالتالي فإنّ تفسير النص الديني الذي هو هنا القرآن الكريم لابد أن يكون من القرآن نفسه عبر المقاصد العامة له وعبر معطيات اللغة واستخداماتها في النص ذاته.
ولمّا كان القرآن كتاب هداية، فإنّه يتم الاعتماد على آيات الأحكام فيه لوضع مفاتيح العلاقات بين الناس ليطوروها مع استمرار اتفاقهم مع مقاصدها وروحها، باستلهام منظومة القيم التي يُرجَع إليها في إصدار الأحكام، مثل: الحرية، والعدل، والسماحة..الخ. دون أن نغفل أنّ القرآن والسنة تضمّنا نصوصاً لتنظيم بعض الممارسات التي كانت قائمة والتي اندثرت بحكم التطوّر الزمني والاجتماعي وانتفت الحاجة إلى تضمينها قوانين الحياة المتطورة، كالرق والأنفال وتوزيع الغنائم والسبي والجزية وأهل الذمة، وصولاً إلى مفهوم الولاية التي نزلت بحق المرأة ومسائل تتعلق بالزواج والطلاق والإرث والقوامة.. الخ.
هذا يقودنا إلى موضوعة المشاركة السياسية للمرأة، حيث يمكن إقامة الأمر وفق فقه جديد يستبعد تأثيرات العصور التي برزت فيها مواد فقهية بحق المرأة بُنيت على ظروف العصر الذي صيغت فيه هذه الرؤى، أو أنها استندت إلى أحاديث موضوعة، أو منقولات من كتب السابقين وتراثهم الديني.
ومن أجل التصويب في المسألة لا نستند إلاّ إلى التوجيه القرآني بحق المرأة، حيث جاء في سورة التوبة (71): “والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ويطيعون الله ورسوله، أولئك سيرحمهم الله، إنّ الله عزيز حكيم”.
وفي آل عمران (104) قال تعالى: ((ولتكن منكم أمةٌ يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون”.
أول النقاط واجبة الذكر أنّ المرأة كما هو واضح فيما سبق مشمولة في معنى الأمة، ولها حقوق الولاية على المؤمنين كما للمؤمنين حقوق بالتساوي، في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الخير، ممّا يعني أنها تشارك في جميع فعاليات المجتمع بما فيها الولاية العظمى “رئاسة الدولة بالمفهوم المعاصر”، وعليها واجب تؤديه في كل موقع دون تمييز ذكوري أو أنثوي، ومن غير حاجة للاستثناءات التي وضعها الفقهاء .
وما يدل على أنّ المسألة عرفية وليست شرعية، سنقرأ في تأويلات المعاصرين من حملة الفكر السياسي والشرعي:
من مقال “جمال البنا” في صحيفة “المصري اليوم” يقول:
“وتحت يدي كلمة للإمام “البنا” عن المرأة جاءت فى كتاب “البهى الخولى” عن المرأة، قال فيها حسن البنا: “إنّ حقوق المرأة السياسية لا يجحدها أحد، ولكن الوقت لم يحن بعد لاستخدامها”. الإمام “حسن البنا” هو مؤسس جماعة “الإخوان المسلمون”، وفي قوله هذا يُبيّن لنا أنّ المسألة مسألة وقت وزمن، لامسألة شرع ودين”.
لاحقاً وفي بيان الإخوان المسلمين سنة 1994م عن المرأة وتداول السلطة، اعترف الإخوان بحق المرأة فى الانتخابات والترشيح، وفى الوظائف كلها، وفنّد البيان كل ما يدعونه من أسباب تحول دون ذلك.
“حسن الهضيبي” الذي قدّم لكتاب البهي الخولي “المرأة بين البيت والمجتمع” الصادر في نيسان 1953، وفيه فصل يتحدّث عن حقوق المرأة السياسية. أكدّ “الهضيبي” أنّ المرأة يمكنها المشاركة في ضروب الإصلاح في كل نواحي الحياة بما فيها العمل السياسي، وقال: “ليس هناك ما يمنع المرأة من ممارسة هذا الحق، فهو حق قرّره الإسلام، ومارسته المرأة المسلمة على نطاق واسع أيام الخلفاء الراشدين، وهي أبدت رأيها في من يصلح أن يكون خليفة ومن لا يصلح”.
إلا أن العقل السائد آنذاك جعل “الهضيبي” ينزل درجة عن رأيه بقوله: “إنّ الظفر بالحق شيء، وممارسة هذا الحق شيء آخر يخضع للملابسات”. أمّا الملابسات فهي ملابسات جزئية تتعلق بصلاحية المرأة نفسها لأداء هذه الأمانة والاضطلاع بهذا الحق، وكأنّ الرجل دوناً عن المرأة يُخلَق صالحاً لأداء هذه الأمانة والاضطلاع بهذا الحق، دون إعداد وتربية ومشاركة!!
لذلك، بناءً على هذه الاستثناءات الجزئية انتهى “الهضيبي” إلى القول: “إننّا قرّرنا ما قرّرنا من حقوق المرأة السياسية لبيان الحكم الشرعي فقط، أما مزاولته والأخذ به فإنّ المجتمع عندنا لم يتهيأ له، وحين تشيع الثقافة بين الرجال والنساء ويرتفع مستوى الخُلق ويتطور العرف والوعي، وتوجد المرأة الفاضلة المنشودة فلا حرج أن تباشر ما قرّر الإسلام لها”. وفي قوله “حتى توجد المرأة الفاضلة” عجز عن توصيل الفكرة، و قصور في النظرة، فالمرأة فاضلة دائماً.
إذاً الإسلام قرّر والفقهاء منعوا. وذلك بسبب أرضية معرفية تحكمهم، وعقد اجتماعي يُسيطر عليهم، يمنحهم سلطة ذكوريّة وعقليّة ذكوريّة، جعلت المرأة تسكن بيتها فلا تخرج منه إلاّ إلى بيت زوجها أو إلى القبر، فنام المجتمع وسكن وتخلّف وساد الجهل فيه قروناً، حتى خرجت المرأة من سجنها، وها هي تشارك في الحياة بكل أشكالها دون حاجة لتحفظات الفقهاء التي منعتها من المشاركة العامة.
إن إعطاء الولاية للمرأة في سورة التوبة (71) هو إدخار للمرأة تركه القرآن عبر القرون حتى يمكّن لدعاة حرية المرأة أن يرفعوها عندما يجيء الزمان الذي يناسب تلك الحرية ومطلب المساواة، ويسمح بتطبيقها، لأن الآيات تعطي المرأة حرية العمل على قدم المساواة مع الرجل وإلى آخر مدى باعتبار أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يضم كل شيء من فعل الخيرات والنهي عن الشرور والمنكرات، عدا أن الآية تقنن وتعترف بمشروعية العلاقة الوثيقة بين الرجال والنساء على قدم المساواة (المؤمنين والمؤمنات) بعلاقة سماها “الولاية”؛ حيث الولاية تشمل معاني الأخوة والصداقة والتعاون على الخير، ما يفترض الاختلاط الذي ينشأ عن هذه الأخوة وهذا التعاون الذي يستهدف الخير.
أما لماذا لم تظهر هذه التوضيحات في عهود سبقت، فهذا من سنة التدرج، المنهج الذي أخذ به القرآن، وهذا إعجاز الآية الذي يحقق الأهداف حين حصول مبرراتها.
مجلة مستقلة، تعنى بشؤون الثورة السورية، نصف شهرية، تطبع وتوزع داخل سوريا وفي عدد من مخيمات اللجوء والتجمعات السورية في الخارج