مجلة طلعنا عالحرية

نظام آل الأسد.. محنة ثلاثة شعوب

مرزوق الحلبي – فلسطين المحتلّة

قُيّض لي أن أحرّر النصوص لفيلم وثائقيّ أعده طاقم تلفزيونيّ محليّ لصالح قناة الجزيرة عن الجولان في معارك حرب حزيران 1967. يومها، استوقفتني شهادة أحد المغاوير الذي قال إنهم لم يفهموا أبداً أوامر الانسحاب التي تلقوها، علماً بأنهم كانوا -ووحدات مرتبطة بهم- في مرابضهم جنوب هضبة الجولان وبكامل جهوزيتهم القتالية. في زيارة للجولان المحتل سألت عن الرجل حتى وصلت إليه واستمعت إلى قصّته من مصدر أوّل باهتمام وقلق. ذهبت إلى معارفي أستجوبهم في بعض الأسئلة حتى سمعت قصصًا أخرى. ومنها عن اغتيال ضابطيْن أبليا بلاء حسنًا في صدّ الهجمات الإسرائيلية في جنوب الجولان، واضطرّا للانسحاب بفعل أوامر لم تكن بالنسبة لهما منطقيّة؛ لا عسكريًا ولا وطنيًّا.
ارتبطت القصص كلّها بقصّة معروفة عن الوزير السورّي الذي تفقّد مدينة القنيطرة في اليوم الخامس للحرب، ليتفاجأ بعد ساعة من زيارته المدينة ببيان من راديو دمشق يُعلن سقوطها! ولما سأل عن ذلك وزيرَ الدفاع في حينه تمّ إسكاته بالقوّة. قصص تُثبت في ترابطها وجود علاقة غير معلنة بين النظام في سوريا وبين إسرائيل الرسمية. وأنا الشغوف بربط الخيوط ونسج الصور بناء على تأمّل التفاصيل والوقائع ارتأيت أن أقيم الرابط بين “فرع فلسطين” في المخابرات السوريّة وبين تدمير اليرموك ـ عاصمة الشتات الفلسطيني. فكلّ ما سمعته من شهادات عن ذاك الفرع وقسوته وجهنميّته ارتبط عندي بتدمير المخيّم/العاصمة، وبأوامر الانسحاب من الجولان و”تسليم” القنيطرة في اليوم الخامس من الحرب، وبعدم إطلاق رصاصة واحدة على جبهة الجولان منذ اتفاقيات وقف إطلاق النار من العام 1974.
سبق هذا الربط توبيخ كان من نصيبي في جريدة “الاتحاد” الحيفاوية، عندما كتبت مقالًا أقيم فيه تشابهًا بين الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان والاحتلال السوري لبيروت. وقد اعتبرتُ الأمر تقاسم مناطق النفوذ والموارد بالقوة. وهو ما جعل أحد “الرفاق” يُسارع إلى تقريعي وتوبيخي بادّعاء لا زلت أسمع مثله من بعض أوساط الطبقة السياسيّة الفلسطينيّة. ثم جاءت الحرب على المخيّمات، ومحاولات تصفية عرفات بأيدي سورية ووكلائها، لتؤكّد أننا بشأن سلوك سوريّ رسمي مُثير للسؤال والشك بخصوص جوهر مشروعه وغاياته. زادت منهما تقارير صحفية وأحاديث منقولة عن مواطنين سوريين وناشطين. وهو ما دفعني إلى الإجابة بـ “لا” كبيرة على دعوتيْن أن أترأس وفد مثقفين من فلسطينيي الداخل إلى دمشق. وقُلت: ماذا سيكون موقف النظام لو سألته عن حقيقة وجود أكثر من عشرين ألف معتقل سياسيّ في كل لحظة مُعطاة؟ وكنتُ حازمًا في القول إنني لست مستعدًّا لمنح هذا النظام المستبدّ أي نوع من الشرعية.
لا أقول هذا بأثر رجعي أو من قبيل مديح الذات، وإنما كمدخل لنقد موقف بعض النخب السياسيّة الفلسطينية. ليس لأنها لا زالت تؤيّد نظام المجازر في دمشق فحسب، بل لأنها لا تزال غير قادرة على فهم الدور الذي يلعبه نظام آل الأسد في إحداث محنة مُحيقة بشعوب سوريا ولبنان وفلسطين، والعلاقة بين تعثّر المشروع التحرري المدني في هذه المواقع بفعل فاعل وهو نظام آل الأسد. من فرط “الجمود” في مواقف هذه الأوساط لم تنتبه إلى دلالات تدمير مخيّم اليرموك عاصمة الشتات الفلسطيني، القوة الضاغطة في اللاوعي العربي على موضع حق العودة لإبقائه حيًّا ينتظر إحقاقه. وللحقيقة، لم ينتبه الرأي العام الفلسطيني والعربي لهذا الحدث ومعانيه. خاصة وأنه فُهم كخطوة ضرورية في إطار الحرب على داعش أو قوى المعارضة السورية ذات التوجهات الأصولية التي تدعمها المملكة العربية السعودية. بيد أننا نقرأ هذه الخطوة ضمن ما نسمّيه المشاريع الخفيّة، أو الأدوار غير المعلنة للنظام السوري في الإقليم، كجزء من سعيه إلى الاحتفاظ بالحكم مهما يكن. نقدّر مثلًا أن تسليم القنيطرة كان بداية تكتيكات النظام الذي نشأ عما سمّي “الحركة التصحيحية” للحصول على ضمانة إسرائيلية لبقائه في بداياته. ونقدّر على الجهة الثانية من الزمن أن تدمير اليرموك جاء في إطار سعيه إلى ضمان عدم انهياره.
بينما كانت الإدارة الأمريكية تضغط لحلّ منظمة الأونروا باعتبارها اعترافاً من الشرعية الدوليّة بقضية اللاجئين الفلسطينيين ومطلب حقّ العودة، كان النظام السوري يدكّ بيوت المخيّم ويدمّره كـ “حاضرة” فلسطينية في الشتات القريب من فلسطين. وقد كان تدميراً منهجياً ـحسب الصور والشهادات التي حصلت عليهاـ لا تتعاون السلطات السورية في إعادة رفع الأنقاض فيه، وتسهيل عودة أهله النازحين هنا وهناك وخارج حدود سوريا. هذا ناهيك عن تعريضه إلى عملية “تعفيش” لم تترك فيه إبرة ولا ملعقة!
وقد عبر المشروع السوري في هذا الإطار الحدود إلى داخل لبنان؛ حيث تعرّضت المخيمات الفلسطينية والفلسطينيون لضغط غير مفهوم من قوى لبنانية موالية للنظام السوري ووكيلة لإيران. ويُعيدنا هذا الحدث بوقائعه إلى حرب المخيمات بعد “خروج بيروت” في العام 1982 بواسطة وكلاء فلسطينيين لبنانيين. حرب بدأت في الأرض السورية وانتقلت إلى الساحل اللبناني. حرب لم تقتصر على المخيّمات بل طالت كل زاوية في لبنان تنبض بقضية فلسطين، لا سيّما القوى الوطنية وقياداتها.
خيط واحد يربط بين تسليم القنيطرة ـ حزيران 1967 ـ والسبعينيات ـ تل الزعتر واغتيال كمال جنبلاط ـ والثمانينيات ـ حرب المخيّمات ـ والتسعينيات ـ مخابرات النظام/ فرع فلسطين وقمع القيادات الفلسطينية وترويض النُخب ومحاولة خلق بدائل فلسطينية لمنظمة التحرير على مدار القضية وعُمقها، وصولًا إلى تدمير “حاضرة اللجوء” في اليرموك، مرورًا بتحويل سوريا إلى سجن لشعبها وقوى التحرر الفلسطينية، وتحويل لبنان إلى مزرعة للمخابرات تُدار من عنجر، وصولًا إلى تدمير الحاضرة في سوريا بعد 2011 بعد القبض على روح لبنان ـ بيروت ومصادرة مستقبل الشعب اللبناني وتاريخه، من خلال نظام الخاوة، وإطلاق يد الوكيل الشيعيّ حرة في التخريب ـ مقتلة واحدة ممتدة في المكان والزمان الشاميّ، وإن تعددت أساليبها ـ من القوة الناعمة وإرهاب الدولة، إلى التوحّش التام كما رأينا في العقد الأخير.
أما مَن لا يرى ذلك على جثث مئات آلاف القتلى وعشرات آلاف الذين اختفت آثارهم في المقابر الجماعية والمغائر والوديان السحيقة، ولا في سحق المدن والحاضرة فإما أنه أعمى النظر أو أعمى القلب أو يعيش وعيًا كاذبًا. أو أنه مضطرّ للإذعان للقوة الغاشمة القادرة إلى الآن على تأجيل الحقائق أو طمسها.
أما العالم الذي حولنا فهو ليس سوى أنظمة تبحث عن الفرص في محن الشعوب وأراضيها. وإلّا كيف نفهم تقاسم القوى الفاعلة سوريا الأرض والموارد والبشر ـ تركيا وروسيا وإيران وأمريكا وإسرائيل ـ خمسة احتلالات لن تكون مؤقّتة بقدر ما ستكون ممتدة بامتداد آبار النفط والغاز في الرقّة، وبامتداد الساحل السوريّ الذي صار روسيًّا. قوى استعملت وتستعمل آل الأسد ليس لحكم سوريا فحسب، بل لأداء مهمات أخرى ومنها تعطيل المشاريع الوطنية لفلسطين ولبنان، أيضاً..
في إطار تدريسي لمادة العلوم السياسيّة أحاول أن أطوّر مفهوم الدولة كعصابة ليس إلّا ـ وقد زوّدني النظام السوريّ بنموذج يدعم الموديل المفاهيمي الذي أسعى إليه.

Exit mobile version