غياث الجندي
كانت سلمى مثلها مثل الآلاف الذين اضطرّوا إلى الهروب من جحيم الحرب السورية، ومن نيران البراميل المُتفجّرة التي تسقط كل يوم وكل ليلة بجوار منزلها، تحلم بعشّ آمن لها ولأولادها الذين حُرِمُوا من طفولتهم ومن مدارسهم. عبرت الأم الوحيدة قريتها إلى الحدود التركية، ومن ثمّ إلى مدينة تطلّ على البحر الذي يؤدي بالناس إلى الأراضي اليونانية.
ركبت سلمى وأطفالها القارب المطاطي لتعبر إلى اليونان، بعدما ضاق بها الانتظار لأن تلحق بزوجها وطفلها بإحدى الدول الأوروبية. لقد كانت محظوظة أنّها وصلت للبرّ اليوناني مع آخرين بعد نجاتها من جشع المُهربين، ومن الأمواج البائسة التي تغمر المراكب حيناً وتستكين حيناً آخر. كانت فكرتها أنّها ستنتظر لأيام معدودة قبل أن تأخذ طريق البلقان لتوصلها إلى من ينتظرها في أطراف أوروبا.
انضمّت سلمى للاجئين واللاجئات العالقين في اليونان بظروفٍ مأساويّة، تنفرد بوضعٍ خاص حيث يعيش معظمهم مصيراً غامضاً مجهول النهاية. يعيش القسم الأكبر منهم في مخيمات مؤقتة أو في أبنية مهجورة ينقصها الدعم والمساعدات؛ فلا مدارس للأطفال، ولا حياة طبيعية للأهالي. وتتحمّل النساء القسم الأكبر من هذه المعاناة المُستمرة؛ حيث يوجد عدد لا بأس به من الأمهات اللواتي ينتظرن مع أطفالهن لمّ شمل عائلاتهن بعد سفر الأزواج إلى دول اللجوء الأوربي، آملين بلقاءٍ قريب قبل أن تسكَّر حدود دول البلقان وتغلق أبواب السفارات بوجوه العائلات.
سلمى أمٌّ لأربعة أطفال سبقها زوجها منذ ثمانية عشر شهراً مع ابنها الذي يبلغ من العمر ثمانية أعوام. وفي غمرة الحرب الشعواء التي يشنها النظام السوري، ومع غياب أي مستقبل لأطفالهم في ظل قصف المدارس والمنشآت الحيوية والانتشار العشوائي للمسلحين، هربت العائلة من الدمار المُمنهج للمجتمع المحلي التي كانت تعيش فيه.
تم ترتيب الخطوة الأولى بمغادرة الأب مع ابنه الصغير؛ حيث لم تكن تسمح له قدراته المادية بالسفر مع كل العائلة عبر قوارب الموت التي سيطر عليها حفنة من المهرّبين المجرمين بدورهم أيضاً.
استقر الزوج والابن في دولة أوروبية، لكن بقيت العائلة تحت رحمة البراميل المتفجرة وتحكّم المسلّحين بلقمة عيش السكان المحليين. وحيث تأخرت السفارة بتمكين العائلة من الالتحاق ببقيّة أفرادها، قرّرت سلمى أن تصطحب أطفالها الثلاثة وتنطلق عبر قوارب الموت إلى اليونان عن طريق تركيا.
بقيت سلمى في خيمة مع أطفالها على الحدود لمدة شهرين ونصف في ظروف شبهتها بأنّها “حالة من حالات جهنم”، وبعد أن فقد اللاجئون الأمل بفتح الحدود عادوا من حيث أتوا، وصلت العائلة إلى ميناء أثينا، حيث تجمّع العالقون في اليونان هناك في خيمٍ بسيطة التصميم، في اكتظاظٍ شديد وسط حرٍّ شديد وأحياناً مطرٍ غزير أدّى إلى عوم الخيم وتبلّل اللاجئين مع أمتعتهم.
في الميناء لم يوجد إلاّ القليل من المنظمات للمساعدة، واعتمدت العائلات على المساعدات من المتطوّعين والمتطوعات، ومن الأهالي اليونانيين الذين أتوا لمساعدة اللاجئين. بقيت سلمى مع أطفالها في الميناء بدون أيّ دعم أو أيّ إمكانيّة لأن تلتقي بطفلها الصغير الذي بدأ يكبر بألمانيا بعيداً عن أمّه وإخوته.
لم تكن صعوبة العيش في تلك الخيم تنحصر فقط في نقص المساعدات، ونقص الدعم العاطفي للعائلات المُقسّمة، بل امتدّت لصعوبة المحافظة على الأطفال من الضياع في ظل انتشار الفوضى والعنف بينهم والعنف بين رجال المخيم من جنسيات مختلفة. لقد كان الأطفال مرّة أخرى ضحايا الظرف الجديد، وضحايا عنف الكبار، والغياب التام لأيّ عمليّة تربوية، أو وجود أيّ إمكانيات للتسلية والترفيه. الأمر الذي حتمّ على سلمى القيام بدورٍ مُعقد؛ فبالإضافة لغياب الأب، وغياب أفق أيّ حلول، كان عليها المحافظة على أطفالها من الاتجاه نحو العنف أو التشرّد داخل الميناء ومن بعده المُخيّمات، كان عليها أن تقوم بالدور التربوي وتعليم أطفالها القراءة والكتابة. ابنتها الصغيرة صاحبة العشر سنوات لم تدخل المدرسة أبداً، أمّا الولدان الأكبر منها فتعلموا للصف الأول والثاني قبل بدء الحرب وإغلاق المدارس أو قصفها.
لم يكن الحال أفضل بعد انتقال سلمى إلى مُخيّم مؤقت للاجئين في ضواحي أثينا، حيث حوصر أكثر من أربعة ألاف لاجئ ولاجئة في ظروف تفتقر لأبسط الشروط الإنسانيّة، وتفتقر لأبسط حقوق الإنسان وحقوق الطفل بشكل خاص. في هذا المخيم انتظرت سلمى مع أطفالها لمدة أربعة أشهر حتى أعطتها السفارة الألمانية موعد المقابلة من أجل “لمّ الشمل”، خلالها كانت سلمى حبيسة “كرفانتها” حيث انتشرت الفوضى أكثر في المُخيّم وتزايد العنف أكثر بين الأطفال. وبينما كانت تشتد الظروف قسوة عليها وعلى أطفالها كانت سلمى تنجح عبر أطفالها بنقلهم نحو النجاح.
ابنتها “ليلى” التي لم تدخل المدرسة من قبل نجحت في تعلّم القراءة والكتابة، ونجحت في تعلّم الإنكليزية قليلاً، بينما أخوها “ليث” الذي تعلّم للصف الأول في مدرسته في سورية تعلّم الإنكليزية وكميّة لا بأس بها من الألمانية.
أصبح “ليث” أيضاً لاعب كرة قدم مشهور في المخيم. كان يعمل على أن تكون العائلة بوضع جيد مع أنّ عمره لم يتجاوز الأربعة عشر عاماً. كان ينهض صباحاً ليستلم مُخصّصات الأسرة من الطعام والشراب، وكان في الوقت الذي يسمح له يترجم لبقية العائلات.
بعد تسعة أشهر من نار الانتظار الحارقة، وصلت سلمى مع أبنائها إلى البلد الذي يُقيم فيه زوجها وطفلها. كانت الرحلة في غاية الصعوبة والألم لكن نجاح أطفالها في التعلّم وفي تجنبهم الانخراط في العنف أو التشرّد هو انتصار سلمى على الانتظار واليأس. تحوّلت سلمى من معلمة للّغة الإنكليزية إلى لاجئة مثل الملايين من أفراد شعبها.
مجلة مستقلة، تعنى بشؤون الثورة السورية، نصف شهرية، تطبع وتوزع داخل سوريا وفي عدد من مخيمات اللجوء والتجمعات السورية في الخارج