“نساء تحت النار- قصص بأقلام نساء سوريات” هو كلّ شيء على بساطته، هو حكايا يصعب الوقوف على عددها مع غياب فهرس يُنظّمها في صفحات الكتاب التي تجاوزت المئتي صفحة من القطع الوسط، والذي أصدرته جهة طلبت عدم ذكر اسمها.
من كل مكان في سوريا، من حماة إلى دير الزور وريف دمشق إلى اللاذقية والقابون في العاصمة دمشق، مروراً بجميع الطوائف والطبقات الاجتماعية، ينسج الكتاب أوسع لوحة فسيفسائية لنساء سوريات، متجاوزاً ثوابت الصورة النمطيّة للأم والزوجة والممرضة. هنا نقف مع الراوية، مع زوجة الناشط السياسي الأجوف الذي وجدَ لحظته التاريخيّة ليتملّق ويصعد نحو الأضواء باسم الوطن ودم الشهداء، ومع الناشطة الثوريّة ابنة الميدان وحراك الشارع مع سيدة مثل “سعاد نوفل” التي شاركت في المظاهرات الأوّلى، ثمّ وقفت تتحدّى سلطة التكفيريين الذين يُطلقون على أنفسهم اسم “الدولة الإسلامية في العراق والشام” داعش، نحن هنا مع المعتقلة التي تروي حكايتها وحكاية سيدات شاركنها مساحة الزنزانة الضيقة.
بلغتهم لا بلغة القرّاء المُتخيلين، بهدف البوح الفردي لا التسويق والترجمة نشعر أنّ هذا الكتاب خُطَّ. البعض يروي قصته الخاصة، كالأم التي ذهبت تبحث عن جثمان ابنها الذي بَلغها وفاته تحت التعذيب، والبعض الآخر يروي قصة نساء أخريات، والبعض يحاور تلك النسوة ويمزج ما بين الصوتين، لتكون المحصلّة خطاباً نسويّاً هو بمثابة أصدق شهادة عن واقع المرأة السورية في الفترة ما بين 2010 و2015، وهو خطاب يُعلنه الرجل كما المرأة، المشاركات والمشاركون في الكتاب، إذ نقرأ قصة “سميرة” التي كتبها زوجها الكاتب ياسين الحاج صالح، وهي آخر حكايا الكتاب التي تجاوزت الثلاثين.
في هذا النص الطويل البعض اخترن كشفَ أسمائهنّ، وأخريات فضلنّ ترك الكاتب مجهولاً، لا يعبأنَ بمن ينقل الحكاية، بقدر ما هي الحكاية؟ ومن هي بطلة الحكاية؟ بعض البطلات نعرفهنّ حتى دون الحاجة لذكر الاسم الصريح، نعرفهنّ كسوريات عايشنَ تجربة الثورة الأكثر تحوّلاً في تاريخنا السوري ربما، من حراك شعبي إلى حراكٍ مُسلّح إلى حربٍ دوليّة بالوكالة. ولكن يبقى أنّ أحد أبرز المآخذ الفنية على الكتاب هو غياب اسم المُحرّر، والفهرس، وكأنّنا نفقد الترتيب والمنهجيّة، فنتخبط في عشوائيّة موضعة القصص، خاصة وأنّ لكلٍ من هذه القصص زمنها المختلف والمتقاطع مع زمن الحدث العام، المفتوح لسيرورة لا تبدو نهايتها، ويزداد التعقيد الزمني مع بعض القصص التي لا تزال مستمرة حتى اللحظة، فرزان زيتونة الناشطة الحقوقيّة الأبرز في سوريا المختطفة من قبل مجهولين في منطقة خارجة عن سيطرة القوات الحكومية منذ أكثر من عام، يرد ذكرها في الكتاب مرتين، مرّة عبر نص خطّته هي قبل اختطافها، والثانية عبر مقال الصحفية “ضحى حسن” عن عملها التوثيقي، علماً أنّ رزان زيتونة وزوجها وائل حمادة ومعهما سميرة الخليل وناظم حمادي لا يزالون مُختطفين ولم تعلن الجهات المُسيطرة في المنطقة وهي فصيل “جيش الإسلام” المُسلّح أي معلومات عن الحادث.
يهبّ هذا التلوين الزمني إيقاعاً يشدّ القارئ لنص طويل، لكنه يتخلّى في الوقت نفسه عن تراتبيّة الأحداث، فنحن لا نسير في النص مع تطوّر مراحل الصراع في سوريا، بل هي فلاشات تضيء في هذه البقعة أو تلك، فنجد أنفسنا -على سبيل المثال- في أحد القصص الأخيرة من الكتاب أمام صوت الكتلة الخائفة، التي تؤيد الحق في الممارسة الانتخابيّة الرئاسيّة الحرّة والشفافة، ولكنها تخشى خطر المجهول، الذي ربما يكون أسوأ من الواقع المُراد تغييره. هل تتوقعين أنّه سيرحل بسهولة؟ إن لم تعرف عدوّك جيداً فكيف تقاتله؟ إننا في حالة انتحار!”.
النص في هذا الكتاب مُتحرّر من القيود وكأنّه مُكتفٍ بذاته، البعض رسائل مثل الرسالة المُرسلة من مدينة “حماة” ذات التاريخ الحزين، إلى الأهل النازحين في مدينة دوما- ريف دمشق، من المدينة التي شهدت أكبر مظاهرة سلميّة في تاريخ هذا الحراك وقُدَّرَ عدد المُشاركين فيها بأكثر من نصف مليون، وعنوان النص “حماة: “اطمئنوا وطمئنونا عنكم!” في هذا النص اللغة عاميّة، لغة الأخت التي تخاطب أختها، ونقرأ في أخبار الحارة المرُسلة سرّاً ما غاب عن نشرات الأخبار والفيديوهات المُمنتجة لتكون صالحةً للعرض وفق سياسات القنوات الفضائية.
وحده صوت المؤيد الذي انتمى إلى جبهة عمل فاعلة في هذا الصراع غاب على وجه التقريب من حكايا الكتاب، وربما يعود هذا إلى الجدار العالي الذي فُرِضَ بسياسات القتل، والتخوين والتخويف بين شعبٍ واحد، ويتساءل الكاتب: “هل نعيش في وطنين مختلفين؟ وهل بلدنا غير بلدهم…؟ ما نريده وطناً يَسع كلّ الأبناء… لا يستثني منهم أحداً”.
محررة قسم المرأة في مجلة طلعنا عالحرية