نشأت الدولة الوطنية (= القومية)، في سوريا والبلدان العربية الأخرى، الحديثة الاستقلال، على الأسس التي أرسيت في العهد الكولونيالي، وتعينت حدود الدول المشرقية خاصة وفقاً لمعاهدة سايكس بيكو، وسياسات الانتداب والوصاية، فكانت هذه الدول نسخاً عن الدول الحديثة في الشكل: دول وطنية (دستورية) مركزية مستقلة وذات سيادة، مؤسسات وسلطات تشريعية وتنفيذية وقضائية، تعليم وصحة ومواصلات واتصالات وخدمات اجتماعية .. وجيوش وقوى أمن داخلي ومخابرات. وكانت حركة التنوير، في هذه البلدان، ولا تزال، محاصرة بين الضغوط الاستعمارية والإمبريالية وضغوط العولمة أخيراً، من جهة، وضغوط المجتمع التقليدي من جهة أخرى.
فالبنى الاجتماعية التقليدية، التي كان تطورها بطيئاً وهامشياً لم تفقد صلابتها القديمة، على الرغم من الاختراق الرأسمالي والعلاقات السلعية النقدية، ولم تتكيف مع منطق الدولة الحديثة المشكوك في نسبها، لذلك كان على الدولة أن تتكيف مع هذه البنى، ما جعل رؤيتها السياسية والثقافية نوعاً من تركيب غير متجانس من عناصر تراثية وتقليدية وميول سلفية، وعناصر حديثة وميول مستقبلية. وقد نتج من هذا التركيب غير المتجانس أيديولوجية قومية إسلامية، قوامها ماضويات ومستقبليات، هي أيديولوجية الدولة القومية التي تناولها عبد الله العروي وياسين الحافظ بنوع من النقد الثقافي المميز، وقد فرضت هذه الأيديولوجية على المجتمع بقوة الدولة، وغدت هي الثقافة المتسيدة والسلطة الناعمة الملازمة للسلطة السياسية المباشرة. التركيب الهجين لهذه الأيديولوجية، التي تبناها حزب البعث العربي الاشتراكي، وعمل على فرضها على المجتمع، بالترغيب والترهيب، منذ عام 1963، أسهمت في إنتاج الدولة السلطانية المحدثة، التي تقترن فيها المركزية المطلقة بالاستبداد الكلي، مثلما أنتجت الإرهاب واستقدمته وتوسلت به في حربها على الشعب.
منذ ذلك الحين غابت فكرة الديمقراطية، وغيبت، في سياق نزع مكتسبات الحداثة الكولونيالية ومظاهرها ومسخها، فساد في الوعي السياسي خاصة تركيب متناقض اسمه “الديمقراطية المركزية” لدى بعضنا، و”المركزية الديمقراطية” لدى بعضنا الآخر، وعُدَّ هذا التركيب مبدأ “الديمقراطية الشعبية”، ولم تفض لعبة تبديل موقع الديمقراطية تقديماً وتأخيراً إلا عن تبديدها وتعزيز المركزية، وتسويغ الاستبداد الكلي. وكان لاندماج بوادر المجتمع المدني بالسلطة السياسية، التي قلصت الدولة حتى باتت مطابقة لها، أثر حاسم في غياب الديمقراطية وتغييبها، وتبرير ذلك بأولوية مواجهة الإمبريالية والصهيونية ودولة إسرائيل وتحرير الأرض المغتصبة من براثنها. ومضت القيادة الحكيمة في التفكير والتدبير نيابة عن الشعب، والقيادة الحكيمة هي القائد الرمز، وليس سوى القائد الرمز.
يتراءى لنا، في ضوء ما يحدث في سوريا وغيرها، أن المركزية قرينة الاستبداد السياسي والديني والذكوري، لا تنفك عنه ولا ينفك عنها. وأن الدولة الديمقراطية، بالمقابل، هي المجتمع الديمقراطي، أي مجتمع المواطنات الحرائر والمواطنين الأحرار، وأن حرية الأفراد والجماعات وحقوقهم المدنية والسياسية المتساوية هي معنى إنسانيتهم ووطنيتهم، أو لا تكون الوطنية سوى رعوية بائسة وقطيعية بدائية وهمجية. ولما كان المجتمع المدني فضاء من الحرية فإن علاقته بالدولة، التي هي مملكة القوانين، كما يفترض، علاقة تناقضية، أي ديالكتية، متغيرة، وفقاً لنمو المجتمع وتطوره، فلا يجوز النظر اليوم إلى الدولة، التي لا بد منها، في سوريا وغيرها، إلا من زاوية المجتمع المدني، وما ينطوي عليه من تعدد واختلاف يحددان طبيعة النظام السياسي، أو لا يكون النظام السياسي نظاماً للمجتمع، بل سلطة عارية متسيدة عليه بالعسف والإكراه.
التعدد والاختلاف يوجبان أن يكون النظام السياسي فدرالياً أو نوعاً من فدرالية جديدة، تعينها الحياة الأخلاقية للشعب وحاضنتها الثقافية، وهذه وتلك مغروزتان في الاختلاف والتعدد والتنوع. وللمنافحين عن الدولة نقول: مفهوم النظام السياسي غير مفهوم الدولة، لذلك يقال: دولة نظامها السياسي ديمقراطي برلماني … ويمكن أن نقول فدرالي. الدولة شخص اعتباري ومفهوم مجرد، لكن النظام السياسي تعبير مباشر وعياني عن حياة الشعب، فلا تناقض بين النظام الفدرالي ووحدة الدولة وقوتها ومنعتها وسيادتها على إقليمها. النظام الفدرالي يتعلق بالمؤسسات والعلاقات المتبادلة فيما بينها. والمؤسسات هي التي تتعين فيها علاقة المواطنات والمواطنين بالدولة، ولا تكون هذه العلاقة صحيحة ومنتجة وبيئة تمكينية إلا إذا كانت موسَّطة بمؤسسات المجتمع المدني وانتظاماته الحرة وتنظيماته المستقلة، القديمة منها والحديثة. (الذين يتحدثون عن دولة مدنية تعددية إما جهلة وأما ماكرون، وإما جهلة وماكرون معاً وهو الأرجح، لأن ثمة ثقافة في مجتمعنا هي ثقافة تجهيل)
الحياة الأخلاقية وحاضنتها الثقافية، التي تتأسس عليها الرؤية التعددية أو الفدرالية، ولا فرق، تقوم على اعتبار الفرد الإنساني ذكراً أو أنثى هو النموذج الكامل للإنسان، والنموذج الكامل للمواطِنة أو المواطن، وأنه يتوفر على إرادة حرة ومستقلة، أو يمكن أن تكون كذلك، تمكنه من التشريع لنفسه، بصفته عضواً في المجتمع والدولة، فيكون تشريعه لنفسه قابلاً لأن يكون تشريعاً عاماً أو مبدأ عاماً، وإلا كيف نركن لمن ننتخبهم لكي يشرعوا لنا؟ ومن ثم فإن عضوية الفرد في المجتمع والدولة لا تكون إلا موسطة بعضويته في جماعة إثنية أو دينية أو مذهبية، أو في نقابة أو حزب سياسي أو جماعة ضغط أو تنظيم مدني لا يحق لأحد أن ينتزعه منها. هذه التوسطات مرجعيات ثقافية وأخلاقية مختلفة، ليس لأي منها أن تفرض أفكارها وتصوراتها ومبادئها وقيمها على غيرها إلا بالعسف والإكراه، اللذين يحملان جرثومة العنف والنزاعات. ما يعني حق كل جماعة أن تشرِّع لنفسها، وتمتثل، في الوقت ذاته، للتشريع العام، والتشريع العام هو ما يشترك به جميع الأفراد والجماعات، على اختلافهم واختلافها، ويعبر عنه الدستور. وكلما كان هذا التشريع العام أدنى إلى القيم الإنسانية العامة كان أكثر تعبيراً عن الأفراد المختلفين والجماعات المختلفة، لذلك اعتبرنا الإنسية أو الإنسانية أساس الوطنية ورافعتها. فمن لا يستطيع الاعتراف بتساوي الأفراد إناثاً وذكوراً في الكرامة الإنسانية، بحكم ثقافته وتنشئته، لا يمكنه الاعتراف بتساويهم في الحقوق المدنية والسياسية. نحن نتفهم ذلك، ولا نرفض الأفراد بسبب ثقافتهم العنصرية، بل نرفض هذه الثقافة. لذلك نرى في التعددية وسيلة لحل المشكلات بالطرق السلمية، واثقين بأنها تفضي إلى وحدة هي وحدة الاختلاف.
كاتب وباحث سوري