ليست فضيحة الاتجار بالبشر عبر الدعارة المكتشفة حديثاً في جونيه بلبنان جديدة، ولا فريدة من نوعها في ظل الحرب السورية وتبعاتها. وإن كانت المصادفة قد لعبت دوراً في كشف الجريمة الأخيرة، وعدد النساء الضحايا فيها، فإن جرائم الخطف والاغتصاب والحبس والتعذيب والتغييب القسري في سجون النظام السوري لم تزل راهنة وقائمة، ولم تزل أعداد الضحايا من النساء غير معروفة، والجرائم المرتكبة بحقهنَّ غير معلنة ولا قابلة للإحصاء والتحديد، ولا هي مفضوحة، بل مغطاة بسياسة إقليمية ودولية هي أشبه ما تكون بشبكة الدعارة والاتجار بالبشر المكتشفة مؤخراً، لكن على نحو موسع.
ليس بعيداً عن أجواء شبكة جونيه (التي تبدو من حيث الأسلوب وطريقة التعامل مع النساء السجينات كحلقة لبنانية صغيرة من حلقات النظام الكبير في سوريا)، ما حصل مع النساء الأزيديات والآشوريات وغيرهن من السبايا في الدولة الإسلامية، لكن “بالحلال” هذه المرة، وعلى الطريقة الإسلامية الخاصة بدولة الخلافة.
ما يجمع النساء الضحايا في المشاهد الثلاثة المتنقلة بين سوريا والعراق ولبنان، هي الحرب. وما يجمع الفاعلين في ذات المشاهد السابقة، هو أنهم أبناء شرعيون أو لقطاء غير شرعيين لنظام إرهابي واحد، متفرع ومتشابك مع محيطه الإقليمي، نظام لم يكتف باغتصاب السلطة في سوريا، ولا الاتجار بالبشر والقضايا العربية، بل إن العربدة والدعارة السياسية وغير السياسية العابرة للحدود، التي مارسها مرةً في لبنان عبر أزلامه (أمثال غازي كنعان ورستم غزالة) أو عبر وكلائه اللبنانيين، ومرة في العراق أثناء الاحتلال الأمريكي عبر تصدير الإرهاب والاتجار به. تلك العربدة كانت جزءاً مكِّوناً من وجوده واستمراره، و جزءاً أصيلاً من ثقافته ودوره التحطيمي في الثقافة المجتمعية في سوريا ومحيطها.
تجارة الجنس والبغاء، ليست جديدة ولا غريبة عن أي مجتمع فوق هذه المعمورة، لكن الحبس القهري، والتعذيب الاستعبادي، وحجز الأوراق، والضرب والإجبار على ممارسة البغاء، هو أكثر ما يثير الغضب والقرف في الجريمة المكتشفة في جونيه. لكن، أليس هذا الغريب هو السائد في مجتمعاتنا المقسّمة والمنقسمة كرهاً وكراهية بينيَّة، وثقافتنا القائمة على التخفيض المُزري من قيمة البشر وشيطنة الآخر، ولاسيما عندما يكون هذا الآخر وعلى التوالي: من طائفة أو إثنية أخرى، من طبقة أدنى، من النساء أو المهمشين أو العمّال أو المهجّرين أو النازحين! أليس من السائد أيضاً، أن كل من سبق ذكرهم هم ضحايا من جهة، ومشاركين بجزء كبير منهم في إعادة إنتاج شروط قهرهم من جهة أخرى؟ ألم تخرج الثورة السورية أصلاً ضدّ العبودية السياسية التي تعتبر الحامل والحاضن الأساسي للعبودية الجنسية والاقتصادية واحتقار البشر.. أليست السياسة التي طورها النظام السوري وأخوته وتفريعاته في المنطقة هي الحاكمة لمثل هذا النوع الاجتماعي الثقافي المنحط، وهي المثل الأعلى لسلوكه؟
عندما يغيب الحق والقانون عن المجتمع والدولة، تفقد الأخلاق قيمتها وأهميتها في توجيه سلوك الأفراد. وعندما تُعلي السياسة من قيم الفساد المالي والإداري والاقتصادي والسياسي في المجتمع، لن يمتح الناس قيمهم العليا من هواء الأوطان الممانِعة، بل من أرض التوحش والذئبية الراعية للعائشين فوق القانون. وعندما يحتمي المجرمون إما بنظام إقليمي ودولي يحتضنهم، أو بسلاحهم ومافياتهم، أو بامتيازاتهم الطائفية والمناطقية، أو بوساطاتهم المتسلسلة ضمن النظام الفاسد، لن يصيب الناس إلا اليأس من قدراتهم على التغيير ومحاسبة المجرمين، ولن تُحدِث الفضائح الفاقعة؛ على طريقة شبكة العار في جونيه، أو جرائم الاختلاس والسرقة ونهب أموال الدولة وثروات الناس.. أي هزات سياسية ولا اجتماعية، ولن نسمع عن استقالة مسؤول أو تنحي حتى عنصر أمن.
لذلك نرى الأهمية الكبيرة للمقاومة المدنية بجميع أشكالها الحاصلة والكامنة، من الاعتصام إلى الرأي الفردي، ومن الفضح الصحفي والإعلامي إلى التظاهر السلمي والاعتراض القانوني. وإن كنّا لا نتوقع أن تؤدي فضيحة جونيه إلى أي محاسبة مجدية للشبكة المتفرعة في جسم النظام السياسي اللبناني، ولا نتوقع أبداً أن تؤدي اختلاسات رامي مخلوف وملياراته العشر التي كشفتها وثائق بنما إلى أي مشكلة؛ ولو صحفية، في سوريا، كما فعلت مع رئيس وزراء أيسلندا المستقيل!
إلا أن رهان التغيير الاجتماعي “من تحت” للسياسة الفاسدة والمتعالية ما زال قائماً، والنقاط التي تراكمها القوى المدنية والثقافية مازالت قادرة على التأثير وخلق الرأي العام، وإن كنا لن نزيح الصخرة دفعة واحدة، إلا أن خلخلتها وتفتيتها، وتليين الأرض الصلبة التي وقفت عليها لعقود، كان قد بدأ منذ خمس سنوات، وما زال مستمراً رغم كل الإحباط والصعوبات والمطبَّات، ولا نعتقد أن أحداً يملك رفاهية العودة للوراء.
ماهر مسعود، كاتب وباحث سوري، ماجستير في الفلسفة الغربية.