لم تكن إلا ثوانٍ غير معدودات، كانت أمنيتي الوحيدة خلالها أن يكون الذي أعيشه الآن كابوساً عابراً مردّه اختلاط ليلي بنهاره وصباحه بمسائه. تحققت أمنيتي تلك! استفقتُ بعدها مباشرة أتلقف “هاتفي المحمول” الذي كان يرقد على جانبي الأيسر لأكتب كلمة الدخول وأحاول الاتصال بشبكة الأنترنت كعادتي كما أفعل يومياً.. كان مرور بضع ثوانٍ أخرى كاف لأتأكدّ من كونه كابوس لعين.. تمتمتها: “لن تتكرر تجربة الاعتقال أبداً -على الأقل على يد النظام السوري- فقد ذهبت إلى غير رجعة”. اتصلت بشبكة الانترنت بعدها لأتفاجأ إنّها حوالي الساعة الخامسة عصراً.. قد استغرقت في نومي كثيراً اليوم! فجأة يظهر أمامي منشور لأحد الأصدقاء المقربين لي جداً، بدا عليه الكثير من الأسى والخوف والترقب الحذر، وقد كتب: “يا رب لا تفجعنا .. يا رب لا تفجعنا مو ناقصين!! يا رب يا رب..”! حاولت أنّ أربط المنشور خلال أجزاء من الثانية بأيّ أخطار قديمة جديدة كانت تتربص به أو بأحد أصدقائنا المشتركين أو أحد أفراد عائلته، لكنّني فشلت.. أسفل المنشور كان هنالك الكثير من التعليقات، وأنا أحاول قراءتها واستيعابها بعينٍ نصف نائمة.. أتذكّر منها “خير شوفي؟ مؤكد الخبر؟ الله يرحمو ويصبّر عيلتو.. ناجي.. اغتيال..”.
ذهبت إلى صفحات أخرى وبدأت بتقليبها واحدة تلو الأخرى، وكانت معظمها تتحدث عن اغتيال الصحافي السوري البارز والمقيم في مدينة غازي عنتاب التركية (الخال) ناجي الجرف، ابن مدينة السلمية السورية..
ومن منّا لا يعرف ناجي -حنظلة سوريا كما لقّبه أحدهم-؟ ومن منّا لم يطلع على إسهاماته الإعلامية والورشات التدريبية التي قام بها للعشرات من النشطاء السوريين؟ لخلق جيل من المواطنين الصحافيين السوريين المتميزين..
تمهلّت بداية في نشر الخبر ربّما لإنّي رغبت في عدم تصديقه كجلّ أخبار القتل والموت اليومية المحيطة بنا في سوريا، وربّما أنّ منهجية عملي كباحث في توثيق انتهاكات حقوق الإنسان، فرضت عليّ التأني في كلّ شيء، حتى باتت جميع تفاصيل حياتي قائمة على منهجية معينة أبسطها التحقق من أي خبر أو معلومة من أكثر من مصدر موثوق!!
لم تستغرق عملية التحققّ وقتاً طويلاً، وخاصّة بعد أن راسلتُ العديد من الأصدقاء من أجل التأكدّ من هذا الخبر الفاجعة.. تخللت العملية عشرات الأفكار التي تدفقت بكثافة بالغة على مخيلتي (النصف نائمة) وأنا أقرأ بنصف عينٍ عشرات المنشورات والتعليقات الأخرى التي ظهرت أمامي.. حيث بدا لي أنّ الكثير من النشطاء وجّهوا أصابع الاتهام لتنظيم داعش الإرهابي، وحمّلوه مسؤولية ارتكاب هذه الجريمة، ومنهم من جنحت به الأفكار لاتهام أناس محسوبين على النظام.. في حين جاهدت محاولاً تنظيم الأفكار التي التي ازداد تدفقها كسيلٍ جارف توقاً لمعرفة الأطراف المستفيدة، وتخيّل مكان الجريمة، وأسماء من كانوا برفقته، والاستفسار عن اليوم والتوقيت، لماذا؟ ولماذا؟ ولماذا؟ أرسل أحد الأصدقاء المقربين لي النبأ مع تأكيد: “قتلوا ناجي الجرف، بنص عنتاب، بنص البلد بفرد كاتم صوت!”.. اعقبتها متمتماً.. “لا تهمّ جميع التبريرات”؛ فقد خسرنا أحد رموز الثورة وأحد أبرز صحافييها.. أحد مثقفيها وأحد أبطالها.. عمل خلالها ابن الثماني والثلاثين عاماً كرئيس تحرير مجلة (حنطة)، وكان أحد أعضاء تيّار (مواطنة)، وأحد مؤسسي فريق (بصمة سوريا)، والأب الروحي للعديد من الإعلامين السوريين الهواة، وصاحب فيلم (داعش في حلب) والذي حصد مئات آلاف المشاهدات في الأيام الأولى لنشره.. والأهم فقد كان أباً لطفلتين بريئتين (يم وإيميسّا) -كان يحمل لهما طعاماً عند اغتياله- وزوجاً لزوجة شاءت الأقدار لها ولأطفالها أن يتيتّموا باكراً قبل هجرتهم الثانية، والتي كانت من المزمع أن تكون إلى فرنسا، رغبة لطلب الأمان من تهديدات داعش التي طالت قبل فترة ليست ببعيدة اثنين من نشطاء مدينة الرقة اللذين أقدمت داعش على نحرهما وذبحهما في مدينة أورفة التركية، في جريمة هزّت المجتمع السوري المقيم في تركيا..
أياً كان السبب المباشر وراء جريمة اغتيال الصحافي البارز ناجي الجرف، فقد حملت الجريمة معها رسالة ودلالات مؤلمة للغاية؛ أولها كانت لرفاق دربه وأصدقائه والمقربين منه مهنياً من صحفيين وإعلاميين، وثانيها كانت للكثير من الصحافيين والإعلاميين وطلّاب الحقيقة والنشطاء السوريين المقيمين في المدن التركية، الذين ما فتئوا ينشرون ويوثقون جرائم النظام وجرائم داعش الإرهابي وغيره من التظيمات المتشددة في سوريا.
لقد كانت رسالة مأساوية تجمع دلالات ورسائل بغيضة عديدة من المجرمين، ليس أوضحها أن لا أحد بمأمن هنا الآن!! فمن لديه القدرة على اغتيال ناجي في وضح النهار وفي وسط مدينة غازي عنتاب التركية المعروفة بكثافة قوات الأمن التركية، والجهاز الخاص “بمكافحة الإرهاب”، وبرصاصتين أحدهما في الرأس، وكاتم صوت لعين، إنّما يقول للسوريين عامّة: “أنا جاثم فوق صدوركم بكل حقدي وإرهابي وشروري، ولا خلاص لكم منّي بسهولة”!
لكنّهم نسوا أو تناسوا من هو ناجي، وكيف يراه معظم السوريين، وبدا ذلك جلياً أكثر بعد حادثة الاغتيال؛ فقد وحّد دمه السوريين على اختلاف انتماءاتهم ومشاربهم وولاءاتهم، ضدّ هذه الجريمة البشعة، رافضين الرضوخ للإرهاب والقتل، مصممين على الحياة، ورافضين تغيير منفاهم الإجباري إلى منفى آخر.. سوى لسوريا المحررّة الحرّة من جميع أشكال الظلم والطغيان والإجرام والقتل..
المتحدث الإعلامي باسم مركز توثيق الانتهاكات في سوريا