مجلة طلعنا عالحرية

مَن سيكتب تاريخ الدّم السوري؟

يوسف صادق

قال محمود درويش في ديوان أحد عشر كوكباً: “للحقيقة وجهان.. والثلج أسود فوق مدينتنا”، أيُّ الحقيقتين سيحفظها التاريخ؟! سحق وقتل وتهجير شعب منذ عام 1982، أم أنّ المنتصر سيقلب الحقائق لتكون تاريخه وتاريخنا؟..
على مدار الأعوام الأربعين يلقن النظام الأطفال عبر مناهجهم، وعبر مطبوعاته ونشراته الحزبية، أنّه تصدّى وسحق الإرهابيين في حماة، ساعده احتكاره لكل السلطات، ومنها سلطة الإعلام وسلطة التعليم، وسط تغاضي العالم حيناً، أو الاستماع لروايةٍ وحيدةٍ آنذاك، لعدم وجود إعلام حر. والآن يحق لمَن مازال يعيش تشوّهات المجزرة أن يسأل: متى يُنصف التاريخ مَن كانوا وقوداً وحبراً أحمر في كتابته؟
ولا تخفى تلك العلاقة الجدلية بين الإعلام وكتابة التاريخ، فكلما كان الإعلام موَجّهاً من سلطة حزب عقائدي أيديولوجي أو سلطة عسكرية أو دينية، كان الهدف هو التأثير والتضليل، حيث تحتكر تلك السلطة الحقيقة التي تريدها لضمان بقائها، وسيكون التاريخ زوراً وبهتاناً.
لهذا فسوريا بحاجة لإعادة كتابة تاريخها منذ احتكار سلطة البعث للدولة عام 1963.
ما نحتاجه حقاً في زمن الرداءة وقوّة الإعلام المتوازية مع التطوّر التكنولوجي، هو الحقيقة الإعلامية، أي التأثير بالمجتمعات المدنية والمحافل الحقوقية العالمية من جهة، ومن جهة أخرى أن نعي أنّ الحقيقة وحدها ثورةٌ كما قال لينين، وأن يُرسّخ هذا الوعي في عمل المنابر الحرة، وفي الحوار الوطني الجامع، على أساس الاعتراف بالآخر والعدالة للجميع.
قد نجد مبررات كثيرة لعدم وصول صرخات الألم من تلك المدينة، أو من خلف جدران تدمر أو صيدنايا أو غيرها.. لكنّ تجارب السوريين منذ عام 2011 تشير إلى خفايا ما خلف الأكمة؛ فعنجهيّة النظام جعلته غير مبالٍ في كذبه على العالم، وهو يعلم أنّ كلّ العالم يعلم بحقائق ما جرى. بل وسيكتب -حسب تصريحاتٍ لوزارة التربية التابعة له- تاريخ تصدّيه من جديد “للعصابات الإرهابية والمتآمرين على صموده” في مناهج جديدة يلقّنها للأجيال القادمة!
على ماذا يراهن؟ هل انتهت الحرب -كما صرّح بيدرسون- وانتصر النظام بسحق وقتل وتهجير شعبه؟ ومَن سيعترف بانتصاره؟ أم أنّه غير معنيٍّ بذلك، وسط توازنات القوى العالمية وهيمنة سلطة القوّة والمصلحة على القرار العالمي. وإلى متى ستدوم هذه التوازنات؟ نحن بانتظار اتفاق دول القرار العالمي.
لكن من جهة أخرى، هناك إشارةٌ بعثت بها حادثتا الطفلين المغربي ريان، والسوري فواز قطيفان، لتسلّط الضوء على مأساة منسيّة يحاول العالم نسيانها لعجزه أمامها.
العالم عاجزٌ عن حلّ مأساة النازحين في الخيام، وإنصاف أرواح الأطفال؛ بدءاً من تامر الشرع وحمزة الخطيب، وصولاً لأطفال الحولة والغوطة، ثم نهلة، وشهد وليس آخرهم فواز.. بينما إيلان فقد حظي بتوثيق عدسات الإعلام في أوروبا. لكن العالم المتحضّر مستعدٌّ لتقديم المساعدات دون النظر بعيون الأطفال السوريين! نعم.. يحقّ للأطفال أن يشعروا بالحقد أو الكراهية أو ما تشاء مشاعرهم!
حينما نُصاب بالخيبة من مارسيل خليفة وفيروز على سبيل المثال ورموز تربّينا على إرثهم الإنساني حينما يديرون ظهورهم لنا، ونسأل هل سنربي أطفالنا على الحقد والكراهية؟ وليس على التسامح والحوار والعدالة! وهل نسي أطفال حماة بعد أربعين حولاً ما عايشوه؟ وهل ينسى الأطفال السوريون الآن، جحود العالم لهم غداً؟ وهل تكفي برامج التأهيل النفسي والسلّات الغذائية والهدايا، وتعيد لهم جزءاً من التوازن النفسي؟ أو لحظات من حقّهم بالعيش الكريم.
أمّا على الصعيد السياسي فيحق لمَن عاش أو ورث هذه التغريبة أن يسأل: هل محاكم كوبلنز وغيرها ستعيد لهم حياة أحبابهم وتطفئ النيران التي أكلت ذاكرتهم، وتنصف السوريين وتاريخهم، على أهميّتها الآن في القضية السورية، وهل يستحق أبناء سوريا هذا المصير وهذا الشتات؟.. وهل سيبقى هناك أملٌ ليورّث؟
هنا نأتي لدور أطياف المعارضة السياسية، ودورها الإعلامي، والتي لم نسمع إلّا عن مؤتمراتها ومنصّاتها وفنادقها، وضمير الأمّة السورية يسألها: هل استطاعت كتابة تاريخ سوريا منذ أيام الثورة؟ ولماذا لم تشغل بال الرأي العام العالمي بقضية فواز قطيفان وغيره، كما فعل الإعلام المغربي؟

كتابة التاريخ يعني ضمير الأمة، يعني الوفاء لكل إنسان انتمى لهذه الأمة بروحه أو بلسانه أو بدمائه.. المسؤولية تقع على مَن هو قادرٌ على إيصال صوته للعالم، وعلى وعي مَن يدّعي الانتماء لفكره وبلده بضرورة دور الإعلام في إيصال الحقائق وكتابتها.
مسؤوليةٌ اضطلع بها ناشطون حقوقيّون وسياسيّون وصحفيّون، رغم خطورتها وتبعاتها، فكانوا نذراً لمستقبل وطن أرادوه، شعارهم الحقيقة أولاً، وسوريا حرة ديمقراطية مدنية؛ فيحق لمثل هؤلاء الاعتزاز بما قدّم على مدى سنوات، من مواكبة الأحداث بضمير الصحفيّ، وقلب الثائر.

واليوم ما يجري في السويداء هو امتحان جديد لكل السوريين، حيث يصرّ النظام على روايته القديمة بوصم كل مَن طالب بالكرامة بالعمالة والإرهاب والطائفية، وهي فرصةٌ لقوى الثورة بمساندة حراك الأهالي السلمي في السويداء، علّ الثورة تستعيد جذوتها في النفوس. ولعلّ تسمية جمعة التظاهر “لقاء الأهل بالأهل” وشعارات المحتجّين والمتظاهرين، تعيد التاريخ إلى 2011، لتُعاد كتابته في الساحات وفي الحناجر، بدءاً من اللافتة الكبرى “هنا السويداء.. هنا سوريا”، ثمّ توجيه التحيّات للمحافظات السوريّة، وإعلان التضامن مع الصحفي كنان وقّاف ومأساة الطفل فوّاز، مُتحدين النظام وكاشفين فساده ونهبه للثروة الوطنية على مدار عقود، منادين بالعدالة والعيش الكريم لكل السوريين.
ويبقى السؤال: مَن سينصف التاريخ الماضي والحاضر؟ وهل ستنتصر صرخات الشتات وأفواه الخيام وصدى السجون على أصوات الرصاص والسياط طيلة عقود؟!

Exit mobile version