غسان ناصر
“كي لا تبقوا ضائعين في بحر الظلمات”: “لا تنظروا إلى مصالحكم الخاصة كمتعارضة مع المصلحة العامة، فهي جزء أو يجب أن تكون جزءًا منها. لا تنظروا إلى وطنكم من خلال أهدافكم وإيديولوجياتكم، بل انظروا إليهما من خلال وطنكم، والتقوا بمن هو مختلف معكم بعد أن كانت انحيازاتكم تجعل منه عدوًا لكم”.
كانت هذه كلمات من وصية المعارض السياسي البارز والمفكر السوري ميشيل كيلو، الذي غادر دنيانا منذ أيام عن عمر ناهز 81 عامًا، إثر تدهور حالته الصحية بعد إصابته بفايروس (كوفيد-19) المستجد.
وأضاف كيلو في ما اعتُبر وصية وجهها للشعب السوري، في 7 نيسان/ أبريل الحالي، بحسب منشور “فيسبوكي” لصديقه المفكّر الفلسطيني السوري أحمد برقاوي: “في وحدتكم خلاصكم، فتدبروا أمرها بأي ثمن وأي تضحيات، لن تصبحوا شعبًا واحدًا ما دمتم تعتمدون معايير غير وطنية وثأرية في النظر إلى بعضكم وأنفسكم، وهذا يعني أنكم ستبقون ألعوبة بيد الأسد (بشار)، الذي يغذي هذه المعايير وعلاقاتها، وأنتم تعتقدون بأنكم تقاومونه”. وأردف: “ستدفعون ثمنًا إقليميًا ودوليًا كبيرًا لحريتكم، فلا تترددوا في إقامة بيئة داخلية تحد من سلبياته أو تعزلها تمامًا”. وتابع: “لا تتخلوا عن أهل المعرفة والفكر والموقف، ولديكم منهم كنز، استمعوا إليهم، وخذوا بما يقترحونه، ولا تستخفوا بفكر مجرب، هم أهل الحل والعقد بينكم، فأطيعوهم واحترموا مقامهم الرفيع”.
وفي ختام الوصية وجه كيلو السوريين إلى اعتماد أسس للدولة: “يسيرون عليها ولا تكون محل خلاف بينهم، وإن تباينت قراءاتها بالنسبة لهم”. معتبرًا أنّ “استقرار هذه الأسس يضمن استقرار الدولة، الذي سيتوقف عليه نجاح الثورة”.
§ في نقد السلطة الفاسدة ببُعدها الطائفي..
كيلو الذي غادرنا يوم الاثنين الموافق 19 من الشهر الحالي، في أحد مشافي مدينة باريس، كان شاهدًا على حقبة الحكم البعثي الأسدي الاستبدادي لسوريا. وهو أحد أبرز الشخصيات الوطنية السورية التي عارضت الأسدين (حافظ وبشار)، وسبق أن سجن عدّة مرات في سجون الاستبداد، كما كان أحد عرابي (ربيع دمشق)، الوجيز في بدايات تولي الابن الوريث الحكم. ومنذ انطلاق الثورة الحرية والكرامة في آذار/ مارس 2011 ضد النظام الديكتاتوري الوحشي الطائفي الفاسد، مثّل كيلو التيار الليبرالي في صفوف المعارضة والائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، قبل أن ينسحب منه نتيجة خلافات.
وامتازت مواقف كيلو وتحليلاته السياسية بالشجاعة والجرأة، وكان يركز في ما يكتب على تحرير الشعب السوري من الاستبداد والطائفية، وتأسيس البديل الديمقراطي ودولة المواطنة.
ومن كتاباته سلسلة “قصص واقعية من عالم الأشباح.. ذكريات من سجون الأسد”، التي كشف فيها تفاصيل حياة أليمة عاش السوريون فظاعاتها طيلة عقود خمسة في مملكة الصمت الأسدية. وفي الكثير من كتاباته رسم كيلو عوالم الدولة الاستبدادية الداخلية؛ الأفرع الأمنية، المعتقلات، أشكال التعذيب، تصفية المعتقلين، فقدان قيمة الفرد، أو الشعب، في ظل الاستبداد والقمع.
وآخر مؤلفاته كتابه الموسوم بـ”من الأمة إلى الطائفة.. سوريا في حكم البعث والعسكر”، (400 صفحة من القطع الكبير)، الصادر عن دار “موزاييك للدراسات والنشر” في مدينة إسطنبول، وهو عبارة عن دراسة نقدية لحكم البعث والعسكر في سوريا؛ درس فيها كيلو نقديًا، على ثلاث مراحل، امتدت أولاها من عام تأسيس حزب البعث العربي العام 1947 إلى العام 1966، سنة الانقلاب. والثانية من انقلاب 23 شباط 1966 إلى 16 تشرين الثاني 1970؛ عام انفراد الفريق حافظ الأسد (1930-2000) بالسلطة. والثالثة من العام 1970 إلى قيام الثورة السورية في 15 آذار 2011. مفصلًا آليات السلطة البعثية التي استطاعت إحكام السيطرة على مفاصل الدولة طيلة هذه العقود، ليرسم لنا صورة انقسام سوريا بعد الأسدية من خلال تطييف السلطة والمجتمع، ليقتصر عمل السلطة الفاسدة على بُعدها الطائفي بمعنى الكلمة الضيق، والسيطرة على مجمل العمل العام عبر تكليف نخبها الخاصة بتمثيل مجتمع المحرومين، وتغطية أنشطته المبرمجة مسبقًا، والتي يجب أن تبدو كنخب أصلية لهذا المجتمع، ما دام دورها يسهم في تقويض فرص تخلق نخب مرتبطة به، ومؤهلة لإحيائه.
§ مقارعة الاستبداد البعثي-الأسدي لعقود..
المثقف السوري البارز الفنان الخطاط منير الشعراني، اعتبر أنّ الراحل كتب وصيته كلاعب كبير في المعارضة الوطنية الديموقراطية قبل رحيله والتي حوت نقاطًا إيجابيّة عديدةً، لكنّها لم تحوِ أيّ شكل من أشكال الاعتذار عن أخطاء وممارسات وسقطات عديدة وقع بها، تخالف، من وجهة نظري، هذه النقاط خصوصًا والوصية عمومًا، بدءًا بدوره في “إعلان دمشق” مرورًا بـ “مؤتمر سميراميس” ثم في انقلابه على نتائج انتخابات “مؤتمر المنبر الوطني الديموقراطي”، ثم بالمراهنة على جبهة النصرة والائتلاف وبعض الجهات الخارجيّة، إلى غير ذلك. ورأى أنّ كيلو “رحل مأسوفًا عليه، ورحل زبده معه وبقي منه ما ينفع الناس إن هم انتخبوا منه ما ينفعهم”. مبينًا في منشور كتبه على جدار صفحته يوم الجمعة (23 من الشهر الحالي)، “الأمر الذي رأيته غائبًا عن كثير مما كُتِب في نعيه ورثائه من قبل أناس اختلف معه كثيرون منهم لكنهم في نعيه بالغوا في مديحه وتقريظه وتنزيهه عن الخطأ وكأنّه لم يخطئ ولم ينزلق!”. وتابع الشعراني: “مازلنا للأسف لا نفرّق بين الحزن على إنسان كإنسان وبين الحزن على إنسان في موقع الفعل العام؛ أصاب وأخطأ، وعلينا أن نستفيد من صوابه، ومن تجنّب أخطائه التي ربما كان إدراكه لها السبب وراء وصيته، دون أن يشير إلى ذلك”.
ميشيل كيلو قامة وطنية سورية، أحب بلاده بصدق وقارع الاستبداد البعثي-الأسدي بشجاعة قلَّ نظيرها، ولا شك أنه أصاب وأخطأ في مسرته النضالية، لكنّ أحدًا منا لا يمكنه التشكيك بصدق نواياه وطموحاته المشروعة في بناء وطن لا مكان فيه للطغاة والمستبدين تحت شمس الحرية.
وطوال حياته اشتغل كيلو منذ مطالع شبابه في ظروف قاسية غير ملائمة دون كلل أو ملل، في بلاد كتب عليها العيش على وقع الانقلابات العسكرية والمؤامرات الداخلية والخارجية لعقود خلت. والمرء منا مهما عظمت إمكاناته وتطورت قدراته فهي محدودة في تغيير مسار التاريخ، ولعله من اليسير محاكمة الإنسان بمفعول رجعي بعد رحيله إلا أنه لا بد من تفهم السياقات المُحايثة، والاختلاف حول الخيارات ومراجعتها.
§ كان حزبًا وحده ذو شخصية ساحرة..
ارتبط اسم كيلو لسنوات طويلة في الذاكرة الجمعية للسوريين بكل الصراعات الديمقراطية في بلادنا منذ اغتصب الحكم الانقلابي حافظ الأسد.
سياسيٌ مخضرم يستحق ما أثار غيابه الجسدي في مواقع التواصل الاجتماعي، من غصة في القلب، ودمعة في العين، ووجع في الروح، وقبضة التحدي مرفوعة وعالية في ليلٍ سوريٍ كالحٍ مُتلبِّسُ الظُلمة.
المفكر السوري الدكتور برهان غليون، قال في وداع كيلو: “لم تعرف سورية شخصية ساحرة، امتلكت من المواهب المعنوية والاجتماعية والسياسية ما امتلكه ميشيل كيلو، الإنسان والصديق الودود والمناضل المدني ورجل السياسة والمثقف المسؤول والمفكر الرصين. كان حزبًا وحده، وربما تجاوز عدد محبيه، من مناصريه وحتى المختلفين معه، ما ضمته معظم أحزاب المعارضة من أعضاء وأنصار”. وتابع صاحب “عطب الذات- وقائع ثورة لم تكتمل”، قائلًا: “كان قوة من قوى الطبيعة الفذة التي منحته كل شيء: روح المودة الجامعة والطاقة التي لا تنفد والتوهج الفكري والعزيمة القوية والمثابرة وسحر البيان. كان حركة لا تتوقف في كل الميادين، وشعلة لا تنفد تضيء في كل الاتجاهات، وقبل ذلك عبقرية في التواصل والتعبير عز نظيرها لا تستثني من سحرها المؤيدين والمشككين. أمام هذا الغياب الفاجع لم يكن سهلًا على من عرفه صديقًا حميمًا أن يستعيد اكتشاف معنى العبارة، عزاء كانت أم رثاء”. مؤكدًا أنّ كيلو “سيبقى رمزًا عزيزًا لسوريا الشجاعة، سوريا الحرة، سوريا الجريحة، سوريا المظفرة. وسيسجل اسمه في تاريخها مثالًا للوطنية الصادقة والإنسانية العميقة، وأحد أبرز مفكريها وروادها وملهميها في كفاحها من أجل الكرامة والعدالة والحرية والإخاء”.
ومن يعرف ميشيل كيلو لا بد وأنه سمعه في أيامه الأخيرة وهو يقول: إنّ “مسيرة الثورة في سورية طويلة وشاقة، فنحن نتحرك بين أرض حددت مستواها وتضاريسها القوى الأمنية والاستخباراتية الدولية، وسماء حددت مداها القوى الدبلوماسية والسياسية الدولية، ووضعوا كل القيود لتكون حركتنا فيما بينهما. ولن نتمكن من الانتصار، إلّا إن اخترقنا إحداهما، لنتحرر من هذه الحدود والقيود”.
§ حجز النظام على أمواله وحكم عليه بالإعدام
ولد ميشيل كيلو، في مدينة اللاذقية عام 1940، وعاش طفولته في رعاية والده الذي عُرفَ عنه سعة ثقافته. وينقل كيلو عن والده (حنا) أنه كان يقول: “كيف تستطيع أن تكون مجرد مسيحي في بيئة تاريخية أعطتك ثقافتك ولغتك وحضارتك وجزءًا مهماً من هويتك”.
ترأس صاحب “دير الجسور” (قصة طويلة) 2019، مركز حريات للدفاع عن حرية الرأي والتعبير في سوريا، وكان ناشطًا في لجان إحياء المجتمع المدني، وأحد أبرز المشاركين في صياغة (إعلان دمشق ــ بيروت / بيروت ــ دمشق)، وهو عضو سابق في الحزب الشيوعي السوري. وقد تعرض للاعتقال أكثر من مرة منذ عهد الأسد الأب، حيث كان الاعتقال الأول في عام 1980، ودام سنتين في سجن المزة ضمن ظروف بالغة القسوة، ليسافر بعد خمسة أعوام من الإفراج عنه إلى فرنسا، ويبقى هناك نحو ثلاث سنوات، واصل خلالها ما كان ينشره منذ عام 1967 من مقالات وترجمات، ولم ينقطع نشاطه السياسي خلال غيابه عن البلاد التي قرر العودة إليها بعد موت الديكتاتور حافظ الأسد وتوريث ابنه المجرم (بشار) السلطة، وما سبقه من تشكيل “الهيئة التأسيسية للجان إحياء المجتمع المدني” بالتعاون مع ثلاثة أصدقاء آخرين، وصولًا إلى (ربيع دمشق).
اعتقل كيلو مرة ثانية في 14 أيار/ مايو 2006 بسبب دوره في إصدار (إعلان دمشق ــ بيروت / بيروت ــ دمشق)، بتهمة “إضعاف الشعور القومي والنيل من هيبة الدولة وإثارة النعرات المذهبية”. وكان أن أصدرت محكمة الجنايات الثانية في دمشق في أيار/ مايو 2007 حكمًا عليه بالسجن لمدة ثلاث سنوات بعد إدانته بـ “نشر أخبار كاذبة وإضعاف الشعور القومي والتحريض على التفرقة الطائفية”، ليحال إثر ذلك إلى المحكمة العسكرية بتهمة جديدة هي “تسويق (إعلان دمشق ــ بيروت / بيروت ــ دمشق) داخل السجن، وحضّ السجناء على التوقيع عليه”.
وقبيل منتصف ليلة 19 أيار/ مايو 2009، تم الإفراج عنه بعد احتجازه لأسبوع في مقر أمن الدولة عقب انتهاء محكوميته لأسباب بقيت غامضة.
وبعد اندلاع الثورة شارك ميشيل كيلو في العمل الوطني السياسي لتوحيد أطياف وقوى المعارضة الوطنية مع مجموعة من المثقفين والسياسيين السوريين، وحين فشلت جهودهم شارك في 2012 بتأسيس المنبر الديمقراطي؛ ليكون رافدًا من روافد الثورة، ومساهمًا بارزًا في النضال من أجل مرحلة انتقال ديمقراطي يقرر مستقبل سوريا الجديدة. ثم، وفي نهاية شهر أيلول/ سبتمبر 2013 ساهم في تأسيس اتحاد الديمقراطيين السوريين. وكان قياديًا في الصفوف الأولى للائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، قبل أن يغادره عام 2016.
حجز النظام الأسدي احتياطيًا على أمواله المنقولة وغير المنقولة في سوريا، أواخر العام 2012، وحكمت عليه محكمة الإرهاب بالإعدام في عام 2015.
وفي 18 آذار/ مارس الماضي نُقل كيلو إلى أحد مستشفيات باريس، إثر تدهور حالته الصحية بعد إصابته بفيروس كورونا، الذي أُصيب به على الرغم من تلقيه الجرعة الأولى من اللِّقاح بمكان إقامته في فرنسا، قبل أسبوعين من إصابته وتدهور حالته الصحية.
ليرقد جسدك أيها السوري النبيل براحة بعد رحلة طويلة ومشرفة، ولتبقى روحك حرة بين يدي الخالق، وفكرك وذكراك منارة وشعلة، تمنح السوريين في محنتهم الصبر والمثابرة والإرادة، وتنير دربهم لمتابعة مسيرة الثورة حتى تحقق أهدافها التي ثاروا من أجلها، الكرامة والحرية والعدالة والديمقراطية، في دولة القانون المواطنة المتساوية.
مجلة مستقلة، تعنى بشؤون الثورة السورية، نصف شهرية، تطبع وتوزع داخل سوريا وفي عدد من مخيمات اللجوء والتجمعات السورية في الخارج