داخل النظارة الباردة في مخفر ‘‘المدينة’’ المحلي، تمدد رجلٌ خمسينيٌ وهو يسعل، كان منظره بائساً، وكان يبدو وكأنه ينازع، لكنه كان مدمناً، وفوق هذا كان يضع المخدرات في طعام زوجته، وأطفاله الخمسة.
والحال أن مصادفة حوادث كهذه لم تعد تصيب بالدهشة، أو الاستغراب، ذاك أن تكرر استماعنا، ومشاهدتنا لتلك القصص، والجرائم الغريبة غدا أمراً يومياً ومعتاداً.
سألت المناوب: وما الذي ستفعلونه معه، فأجاب: ربما نقتله، وربما نطرده خارج المدينة..!
ليست تلك بالحلول النموذجية، ولا المناسبة، وهي ليست بالحلول أصلاً، فالرجل الذي تريد زوجته الطلاق منه، وترغب في بقائه بعيداً عن أطفالها، لن يصلحه الطرد، ولا القتل، هذا الرجل يحتاج متابعة من قبل اختصاصيين عقليين، ونفسيين، ويحتاج إلى مصحٍ لعلاجه من الإدمان، ويستحق السجن، إلا أن آخر ما يحتاجه هو الطرد، أو القتل، لكن كيف السبيل إلى شيءٍ من ذلك في هذه الظروف؟
فالسجون، والإصلاحيات، ودور العجزة، ومراكز علاج الإدمان، وغيرها من المؤسسات الاجتماعية، صار ذكرها باباً للتندر، والاستظراف، وفضلاً عن ذلك، فإن الأحكام ‘‘المعالجات’’ التي ارتآها ذلك الشاب للتعامل مع هذا المدمن، هي جزءٌ من حالة الحرب، و‘‘ثقافتها’’، فالقائمون على المخفر هم مقاتلون بالأساس، ولا يوجد بينهم أي متخصصٍ في القانون، أو علم الاجتماع، أو الطب، كما أن تشديد العقوبات، ومضاعفتها زمن الحروب أمرٌ شبه عادي، فلا سبيل للعلاج طالما البلاد في حالة انقسامٍ، وحربٍ.
خرج من النظارة الثانية صوت “ولاعة”، استغربت صدور الصوت من ذلك المكان، فسألت المناوب: هل تسمحون للموقوفين بالتدخين؟ فأجاب بسرعةٍ: لا.
فبادرته: إذن هذا موقوفٌ ‘‘مدعومٌ’’، ولعله من أبناء المدينة، وليس ‘‘نازحاً’’ كذاك المدمن، وأضفت متهكماً: هل ستقتلونه أيضاً؟ لم يجب المناوب.
في غرفة التحقيق كان إطار شاحنةٍ يستند إلى الحائط، وبالقرب منه قطعتا أنبوبٍ بلاستيكيٍ أخصرٍ.
ــ هكذا تحققون مع المتهمين؟
ــ نعم.
ــ أنت من تحقق معهم؟
ــ طبعاً.
ــ هل تَشْبَحُونهم بهذه الحبال أيضاً؟
ــ نعم، أجاب ضاحكاً.
ــ ألهذا خرجتم بالثورة!؟.
ــ لو رأيت ما الذي فعله هؤلاء لما قلت ذلك، ثم ذهب إلى الغرفة الثانية، وأحضر مطحنة بنٍ، وميزان ذهبٍ، وقال: هذه المصادرات لأحد تجار المخدرات، هل تعرف أنه كان يبع الكوكايين، والهيروين، والحشيش، لأطفالٍ لم يتجاوزوا الرابعة عشرة!؟.
غمغمت ببضعةٍ شتائم، فكلامي السابق ليس أكثر من تنظيرٍ لا يمت للواقع بصلة، والحقيقة أنه لا يستطيع أحدٌ لوم هؤلاء المقاتلين، فهذا ليس عملهم، ولوحدهم لا يستطيعون القيام بكل شيءٍ، وقد أخذوا المسؤولية على عاتقهم، بعدما تخلى الجميع، الأطباء، والمحامون، والمهندسون، ركب جميعهم قوارب الموت المتجهة إلى أوروبا، ثم إن البلاد تشهد فوضى، وفقراً مدقعاً، و..
مؤخراً، صار لافتاً في شوارع المدينة رؤية القمامة، وعلب الدواء الفارغة، ومنها دواء “كوبرا”، وهو مقوي جنسي، وربما أصبح الكثير من المتزوجين يستعملونه في الوقت الحالي، فالإقبال على العلاقات الجنسية ‘‘غير المنضبطة’’ بات ظاهرةً لافتةً أيضاً، ويقول البعض: أن المجتمع السوري اليوم يشهد حالة ‘‘انحطاطٍ أخلاقيٍ’’ و‘‘دعارةٍ’’ معلنةٍ، ومعممةٍ، ويستشهدون على ذلك بشيوع حالات الخيانة الزوجية عند الرجال، وتخلي الزوجات عن علاقاتهن الزوجية، وهروبهن مع رجالٍ آخرين، والعلاقات الجنسية المتعددة.
يعتقد البعض أن المجتمع السوري ‘‘فاسدٌ’’ بمجمله، بينما يلقي آخرون باللائمة على الثورة، ويقولون: أنه لولاها، لما تحطم المجتمع، وتحللت الروابط، وسقطت القيم، والمرجعيات، وغابت المؤسسات الرقابية، ولولاها لما تهجر الناس، وأصبحوا نازحين، يضطر الفقر، والعوز بعضهم لمبادلة الجنس بالطعام، والشراب، والمأوى، فيما يعتبر آخرون أن بعض المستغلين، والمنتفعين هم من يقف خلف تفشي تلك الظواهر، وفريقٌ غيرهم يتهم النظام بالوقوف خلف محاولةٍ إفساد المجتمع، بتسهيله دخول المخدرات، والمشروبات الكحولية بصورةٍ مشبوهةٍ للمناطق الثائرة، وبممارسة سياسية حصار المناطق، وحشر الناس في مناطق مكتظة، ومهمشة، تغيب عنها السلطة، وتفتقد للأنظمة، والقوانين.
بعض المثقفين، وناشطي الفايسبوك يهللون للظاهرة، ويصورونها على أنها جزءٌ من أهداف الثورة، على اعتبار أنها دليلٌ على ‘‘تحرر’’ المرأة من هيمنة المجتمع الذكوري، وتجاوز للتقاليد والموروثات الاجتماعية، والدينية ‘‘البالية’’، ودليلٌ على تجاوز الكبت، وعقد النقص، أما أنصار الحركات النسوية فيحصرون الجانب السلبي من الموضوع بقضايا العنف، واستغلال المرأة، واضطهادها من الرجل.
والواقع أنه لا يوجد حكمٌ عامٌ لظاهرة الجنس خارج الزواج، وهي ترتبط بالكثير من المفاهيم، والمعتقدات الصحيحة، والخاطئة، وتخضع بمجملها لأحكام قيمية شخصية، فبعضهم يراها حقاً، وخياراً شخصياً، فيما ينظر لها آخرون باعتبارها جرائم، وبكل الأحوال لا يمكن اعتبار ما يجري تعبيراً عن تحرر، أو تقدم، وهو ليس ‘‘دعارة’’، وغير محصور بالعنف، أو الاستغلال، أو التحكم الذكوري.
الجنس ببساطة غريزةٌ، وحاجةٌ إنسانيةٌ أساسيةٌ، وترجمةٌ لحالةٍ عاطفيةٍ، ووجدانيةٍ خاصةٍ، ونبيلةٍ، وهو وسيلةٌ لحفظ النسل، واستمرار الحياة.
أما التفسيرات المذكورة لتبرير السلوكيات الجنسية في المجتمع السوري اليوم، بما فيها ظاهرتا ‘‘الدعارة’’، و‘‘الخيانة’’، فهي لا تعدو كونها تعبيراً عن آراء، وتحليلات شخصية، تحكمها مورثاتٌ اجتماعيةٌ، وأفكارٌ مسبقةٌ، ونمطيةٌ، وتعوزها الدقة، والموضوعية، يطلقها أناسٌ عاديون، أو كتاب، وناشطون يقيمون في الخارج، لذلك فإن أغلبها غير صحيح، ولا يُلامس الواقع، ولا يقدم تفسيراً، أو معالجةً منطقيةً سليمةً.
والأغلب أن ما تشهده البلاد اليوم على صعيد العلاقات ما هو إلا أثرٌ، ونتيجةٌ مباشرةٌ من نتائج الحرب، ذلك أن الموت وهو المكافئ الوحيد للحرب يمحي ذاتية الإنسان، ويقضي على أحساسيه، ومشاعره، ويلغي منطقه، ومدركاته، ويهوي بقيمه، ومبادئه.
من يعيش في تماسٍ يوميٍ، مباشرٍ مع الموت، لا يقيم وزناً إلا لشيءٍ واحدٍ، هو التمسك بالحياة، والبحث عن الأمان.
في الحرب قد يكون الحب، والجنس هو المكافئ الوحيد للحياة، لذلك يعتنقه الناس، ويمارسونه حتى لو كان ‘‘مُحَرَماً’’، أو‘‘مُجَرَماً’’، وحتى لو عنى ذلك انحدارهم إلى مستوياتٍ بهيميةٍ، ومنحطةٍ.