مجلة طلعنا عالحرية

موت طفل لا يكفي لإيقاظ جميع الضمائر

alan

لا يبدو أن موت طفل في مقتبل العمر غرقاً وأسرته تحاول العبور به ومعه إلى بر حياة أفضل كافياً ليوقظ ضمائر الجميع، لكنها تكفي لإيقاظ قرائح المحليين والمجتهدين من مدعي الذكاء وثخيني الجلود وقليلي الحس وعديمي المشاعر. نعم. أنا غاضب لهذه الدرجة يا سادة.

 ما أن بدأت وسائل الإعلام تنشغل بخبر جديد عن موت ألان الكردي المفجع والصادم، حتى تنطع عتاة التحليل الإعلامي والجنائي والأخلاقي والمنطقي لفصفصة القصة ودحض الروايات التي دارت حولها وعنها، عن عمة الضحية التي كانت تحاول استقدامه وعائلته إلى كندا حيث تقيم، إلى دور الأب في تدبير رحلة الموت تلك، ووضعية الطفل الغريق المستلقي على بطنه التي تتنافى مع أساسيات التحليل الجنائي والعلمي الذي يقول إن الغريق يجب أن يكون ممدا على ظهره. فكل ما حدث كان مرتبا مريبا وعن سابق تخطيط، فهذا، على ما بدا لبعض جهابذة التحليل، جزء من مؤامرة كونية غامضة على سوريا، على راحة البعض، على من ادخروا طويلا ليشتروا بيوتا، ومن يقضون لياليهم في المطاعم والمقاهي الفاخرة ونهارهم يتسوقون في المحال الباذخة على بعد أمتار من أكوام البيوت وجثث الأبرياء، وعلى صمود نظام الممانعة الذي يحمي الأمة العربية ويدافع عن قضية فلسطين. نعم لقد كانت قصة ألان الكردي وقبلها قصة أطفال درعا وحكاية حمزة الخطيب أكاذيب مدبرة لتخدم مخططات كبرى عظيمة لدول الشر، ولجر سوريا إلى الخراب، لأن بقية السوريين يغارون من هؤلاء ويحسدونهم على حياتهم الرغيدة الهادئة الوديعة، ولأن العرب العاربة تحسدها على نظامها العلماني الذي يناطح أمريكا كل يوم ويمرغ أنفها بالتراب، ولأن إسرائيل لم تستطع هزيمتها على مدى ستين عاما، ولأن أمريكا لم تستطع اقتلاع الأسد كما اقتلعت صدام حسين.

كم يلزمنا من الوقت والألم حتى نقيم لموت طفل الوزن الذي يستحق، ونعترف فيما بيننا بمحنتنا كمجتمع واحد، ونشعر بألم كل فرد منا مهما بعد عنا من حيث الجغرافيا والعرق واللون والدين والمعتقد، وكم نحتاج من الموت والوجع حتى ندرك أنه إن تعثر سوري في أقصى الأرض فعلى بقية السوريين أن يتألموا معه، بل وإن تعثر طفل في الصين أو الإكوادور فسقوطه أمر يعني الإنسانية جمعاء.

تفنن عتاة التحليل بدحض رواية العمة عن محاولاتها استقدام أخيها وعائلته التي لم ينج منها إلا الأب المكلوم إلى يوم يموت، وأصبحت العمة في نظر البعض امرأة كاذبة، تستغل الحدث، ولم يتردد الكثيرون في سرد تحليلهم لروايتها بذكاء عظيم، مبدين ما أوتوا من قدرات هائلة على قراءة ما بين السطور، ومقارنة الوقائع والروايات، ولم يعد موت الطفل ووالدته وأخيه وآخرون مثلهم أمرا ذا شأن، فالأولوية هنا لمعرفة خفايا الأمور، والمخفي أعظم دون ريب أو هكذا يقولون.

ولا تزن هنا محنة ملايين اللاجئين والنازحين عن ديارهم شيئا، بل لا يرونها أبدا، ولا تلفت انتباههم على الإطلاق، فثمة أمور أعظم، فالطفل النائم على وجهه على الشاطئ وحركات جندي حرس السواحل التركي، والمصورة التي ظهرت من حيث لا يعلم إلا الله، والانفجار الإعلامي الذي صاحب الواقعة المأساة هي أمور تثير الشكوك، وتدعو للتأمل والتحليل لمعرفة خفايا تلك المؤامرة التي تحاول إيهامنا بأن ضمير العالم قد استيقظ، والحديث عن الأب بوصفه، كما يقولون، المهرب الذي قتل كل هؤلاء ينفي تماما كونه الأب المكلوم اليوم ولاجئا في بلاد لا تعطيه صفة اللاجئ ولا حقوقه، وأن أربعة أعوام من القهر والجوع والتشرد واللجوء وانسداد الأفاق وانعدام الأمل بحل قريب التي تراكمت دون أن يلحظها هؤلاء لا تكفي لتفسير الزيادة الهائلة في موجات الهاربين إلى أوربا بحثا عن حياة أفضل، أو عن حياة في الحقيقة. فألمانيا تسعى لاستقدام السوريين لحاجتها لليد العاملة، وموت ألان المدبر يصب في تلك الخطة الكبرى لفتح أبوب الهجرة للسوريين، الأذكياء، وأصحاب الشهادات والعقول النادرة، حيث سيصلون إلى ألمانيا، البلد العملاق الذي يتراجع عدد سكانه، وسيصبح أبناؤهم ألمانا يخدمون الدولة الألمانية. ليس هناك من سبب إنساني واحد يدعو ألمانيا، أو السويد أو النمسا لقبول هؤلاء المعذبين في الأرض على أراضيها، نحن نحتكر كل الانسانية بينا ظهرانينا وفي قلوبنا وعقولنا وعلى ألسنتا، ولم يبق منها للأوربيين من نصيب.

يجلدك صنف من الناس بثخانة جلدهم، وتبلد عقولهم، وتموت قلوبهم وتتفحم مشاعرهم وهم يمعنون في قراءة أبعاد تلك القصة، وغيرها من القصص الكثيرة، وتشعر وأنت تستمع إليهم مضطرا بأنك أمام هيكل عظمي لكائن لا يشبه أي كائن آخر، كائن أقرب إلى ما تراه في متاحف التاريخ الطبيعي، ومتاحف الشمع، والمقابر القديمة التي تفوح منها رائحة الموتى.

Exit mobile version