Site icon مجلة طلعنا عالحرية

من قلب سوريا: برهة مغايرة للموت!

مجلة-طلعنا-عالحرية-Rising-For-Freedom-Magazine

مجلة-طلعنا-عالحرية-Rising-For-Freedom-Magazine

في منطقة تشبه جزيرة وسط بحر؛ لا هي جزيرة ولا محيطها بحر، رغم أنها في بحر من القحط والسوء والكوارث المجتمعية والاقتصادية والسياسية والقيمية. هي ليست موقعًا جغرافيًا ما وحسب، بل مكان يعاكس تيار الانحدار والهزيمة الحادثة في سوريا، والأهم أنها لا تدعي فعلًا سحريًا ولا عملًا ثوريًا أسطوريًا. بل موقعاً يجمع في زمن مستقطع ثلاثية الماضي والحاضر والمستقبل في كل فعل، مكان يجمع:
· عبق التاريخ الوطني حين كان الوطنيون سند بعض، يقدرون قيمة بعض، يدركون معنى الوطن والاستقرار والثقة والجدارة والمسؤولية.
· قيمة حضارية في حب التعليم وفعل الخير ومساعدة الطلاب ومتابعة تعليم غير القادر منهم في ظل الظروف القهرية التي يعيشها الشباب السوري اليوم.
· قيمة إنسانية في حدودها العليا، والمتّسمة بتعليم ذوي الاحتياجات الخاصة من متلازمة داون.
وقصة بقاء واستمرار رغم كل ظروف سوريا المعقدة.. استمرار الحوار والاختلاف والانفتاح الثقافي، وتداول اللحظي والآني في الشأن السوري والعالمي. بقاء الروح المتعلقة بالأمل رغم كل اليأس والإحباط، والبحث الحواري في غد أفضل لسوريا وللسوريين، وإن لم يكن هذا المستقبل قريب الحدوث، فهي قصة معنى ووجود مغاير لحجم التهشيم والدمار الكارثي الذي تعيشه سوريا منذ أعوام.
ليس فندقًا، ولا قصرًا ذا حدائق ليتسع لكل هذه الفعاليات. هو بيت من حجر أسود يعود عمره للعام 1954، بناه المرحوم قاسم أبو خير المتوفى عام 1959، أحد رجالات وأركان الثورة السورية الكبرى 1925، في قلب مدينة السويداء. وأتم أبناؤه بناءه لشكله الحالي، مما قدمه محبةً ومساعدةً لهم أحد رجالات السياسة والدولة في سوريا المرحوم شكري القوتلي. ليحافظ عليه أبناء المرحوم قاسم لليوم مكانًا يتمثل فعل الخير وعمق العلاقة الوطنية بين رجال السياسة ورجال الثورة، وزكاة عن روحي المرحومين قاسم أبو خير وشكري القوتلي. فيما كان بالإمكان استثمار موقعه وبيعه لأي يد أجنبية بأسعار خيالية، وبناء مشروع تجاري مكانه تحت عنوان إعادة الإعمار، كمثل تلك الأماكن الأثرية في مناطق سورية متعددة يتم بيعها قسريًا أو غبنًا لصالح شركات روسية أو إيرانية!
اليوم، وفي ظل كارثة وطن بأكمله، سياسيًا واجتماعيًا واخلاقيًا، وإفلاس الحلول السياسية والاقتصادية للمسألة السورية، في ظل تهجير الشباب السوري الممنهج وإفراغ البلد والديار من سكانها. اليوم يقاوم هذا التاريخ بحجره الأسود تيار الانحدار هذا. ففي البيت ذاته تعمل مجموعة تطوعية للعمل الإنساني متعدد الاتجاهات. منها مساعدة الأسر المحتاجة التي تعوزها سبل الحياة والمعاش، وتقديم المساعدات للطلاب المحتاجين وفق دراسة عامة تقدم للأكثر حاجةً وتضررًا دون تميز جنسي أو مذهبي أو سياسي موجه.
الإنسانية تجمعنا
تستقطب المساعدات من كل السوريين النبلاء المشتتين في أرجاء المعمورة. مساعدات لا تشترط سوى النجاح في العلم وتقديم ذات المساعدة بعد أن يتخرج الطالب. ولطالما تحدثت المنظمات المدنية عن استدامة المشاريع، وهذه استدامة للخير والإنتاج ورعاية الشباب دون تمويل أممي تذهب النسبة الأكبر منه لرعاة المنظمات الأممية، فيما الواصل منه للداخل السوري تتقاسمه السلطة القائمة بمنظماتها الوهمية التي أشارت تقارير عدة لفساد مالي فاضح فيها وصل ملايين الدولارات، والعديد من المشاريع التي تكاد تكون على حجم فريق عمل صغير قلما يهدف لعلاج مشكلة في الواقع الحالي، بل إن غالبيتها عنوانها البحث في مستقبل سوريا، أما حاضرها فمتروك للعبث والمرارة.
في الغرفتين الأخريين، وبمبادرة من مجموعة تربوية تأهيلية، من ذوي الاختصاص في التعليم والفرح، احتضنت هاتان الغرفتان مجموعة من الأطفال والشباب المصابين بما يشخّص بمتلازمة داون.
نادي الفرح لمتلازمة الحب
تقوم المجموعة على توزيع الفرح وبث الأمان والحب في نفوس هذه الشريحة المهمشة مجتمعيًا. يتعلمون العزف والرسم والألوان، يمارسون بعض المهن الحرة كتصفيف وقص الشعر، يتعلمون القراءة والكتابة، ويقدمون الحب غير المشروط لكل زائر لهذا المكان. فسمي بـ “نادي الفرح لمتلازمة الحب”. أليس هذا تعافياً مبكراً في الحياة؟ كما تريده المنظمات الأممية من خلال اقتصاد التعافي مغروض الهدف والمفتقر لأليات التنفيذ؟ أليس هذا عملاً إنسانياً يضاهي أي فعل إنساني أقرته الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، وثقافة الليبرالية والحرية والاهتمام بالإنسان والحيوان! أليس ركيزة لبناء السلام المجتمعي!
مشتل الأصدقاء!
أمام البناء أرض ممتدة، شتلات من الزرع متعدد الأصناف: نباتات الزينة المنزلية، شتلات الزراعة الحقلية، نباتات البيئة الصحراوية من الشوكيات، وكأنها تعويذة أمل لمقاومة جفاف حياتنا التي نعيش. مشتل زراعي يقوم على رعايته أحد المفصولين أمنيًا من وظيفته التعليمية منذ العام 2007 لأنه من موقعي إعلان دمشق- بيروت لحرية الرأي والثقافة. وليس هذا فقط، بل بات المكان موقع تجمع لكل الأفراد المقبلين على الثقافة والحوار الوطني والسياسي، من كل الأصناف؛ فبات اسمه “مشتل الأصدقاء”. أفراد بخلفياتهم المتعددة سواء كانوا من المستقلين والحقوقيين، ناشطي المجتمع المدني وحقوق الإنسان، ناصريين وبعثيين وماركسيين، وحتى بعض رجال الدين. مكان يجتمع فيه الأفراد دون موعد مسبق، دون تحضير مسبق، دون دعوات رسمية أو جدول عمل، يلتقون في المكان فقط لأنه يعاند جفاف الحياة السياسية وعبثها في المؤسسات العامة السلطوية والمعارضة. يلتقون على حوار الكلمة متعددة الأنماط والدلالات، يختلفون في أوجه الثقافة ولكن يتفقون. يتفقون على تعاقد المختلفين حول المسألة الوطنية؛ فلا أحقية مفردة لحزب أو جماعة سياسية أو دين على التفرد في الحكم، بل هو اتفاق على التشاركية الجمعية في إنقاذ ما تبقى من هذا الوطن.
يحلمون، يفكرون، يحاورون، وعين بعضهم ترقب التاريخ الوطني الذي صنعه القوتلي وأبو خير وسلطان الأطرش وفارس الخوري وهاشم الأتاسي ومئات غيرهم ممن حيدوا غلو السياسة وحققوا حرية الإيمان وعملوا لبناء الوطن والدولة وحسب. وعين أخرى ترقب ما فعله الشباب المدني والسلمي أوائل العام 2011 مستهدفين الحرية والكرامة واسترداد الدولة من حكم العسكر. وعينهم الثالثة، عين القلب، وهذه تعتصر دمًا على ما فعله عهر السياسة السلطوية المحلية والدولية في هذه الديار من قتل واعتقال وتهجير وتفريغ مدن بأكملها. والباقي منا كلمة ترفض أن تكون شاهد زور؛ فهذا الوطن مالم تحمله روح وقلوب شابة، وأيادٍ خبيرة مغموسة بالوطنية دون شهوة سلطة أو استيلاء على الحكم، سيبقى يبكينا لآخر رمق فينا.
ليس لأنه مكان تاريخي يلتزم فعل الخير أو إيقاظ الشعور الإنساني وكفى، ولا لأنه ملتقى للبقية منا المهتمين بالشأن العام، الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والممتد على مساحة مقبولة من الخضرة والمزروعات فقط. بل لكونه، وفعل الكون تشكّلٌ ووجود ومستقبل، مساحة سورية تعاكس تيار الانحدار القيمي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي وصلنا إليه. مكان يقوم على نوايا أصحابه وزواره، على تقديم قيم الخير والثقافة والتعليم والحب قبل أي مصلحة فردية أو نزعة شهوانية للاستحواذ على السلطة. مكان يعمل بالصالح العام والمصلحة العامة، حين يختار بلا ترتيب أو أجندات مصنعة في غرف مظلمة، يختار أن يعمل في النور علّه يحقق ما عجزت عنه السياسة والحرب، يحقق ثلاثية الوطنية تاريخيًا والحرية مستقبلًا وما بينهما من الكرامة والحب والإنسانية وإن كانت في برهة من هذا الزمن الممعن في الموت والجريمة.

Exit mobile version