تقوم علاقة الثورة السورية بالنظام وبالمحيط الإقليمي والدولي على القوة، ليس القوة بمعناها العسكري فحسب، بل بكل أنواع القوة التي تفترض قوة السياسة والقوة العسكرية، وقوة الإرادة والعزيمة، قوة “الشعب” وقوة المصلحة الجمعية والفردية والمتبادلة للدول. وكل ذلك بعيداً عن أي معنى أخلاقي؛ استجدائي أو متعالي، إنساني أو ديني أو علماني أو غيره.
يتوضَّع التدخل الروسي الأخير ضمن تدخلات كثيرة جداً جرّبها النظام السوري لكسر إرادة الثورة والقضاء عليها بالقوة، وهو لم يترك قوة ذاتية أو خارجية إلا واستخدمها لتحقيق هذا الهدف، لكن الفشل الذي أصابه عندما أطلق أول رصاصة وأجاب على شهداء درعا “بالقهقهة” في مجلس الشعب، مازال يحاصره ويصيبه رغم كل التدرّجات التي قام بها متذاكياً، من استجداء إسرائيل عبر ربط أمنها بأمن النظام، إلى إدخال حزب الله مباشرة في الحرب لحماية الفرع السوري للنظام المقدس في إيران، ثم إدخال الميليشيات الشيعية المضحوك عليها بالدين، إلى إدخال إيران ذاتها عبر قاسم سليماني “الجنرال المقهور في درعا” وحرسه الثوري.. وأخيراً اليوم مع الدخول الروسي المباشر، بعد كل الدعم الروسي الذي بدأ بالسلاح، ومر بمجلس الأمن، وانتهى بالسلاح والجنود والاحتلال المباشر.
ليس هناك أصدقاء للشعب السوري، لا بل إن دول كأمريكا والسعودية وقطر وغيرها، كانوا يخشون، على طول خط الثورة انتصار الشعب السوري بالقدر نفسه الذي يرغبون فيه بإسقاط النظام، لذلك كان التردد والحيرة، والدعم الجزئي، والهبّات الأخلاقية الكلامية دون التزام أخلاقي أو سياسي أو عسكري واقعي، هو الحاكم لمواقفهم مجتمعين ومنفردين.
كنا قد وصلنا مع التدخل الإيراني الثقيل، إلى مشروع سوريا المفيدة لإيران والنظام، أو السوريات المفيدة، تبعاً لتعدد السوريات المفيدة حسب كل طرف، وقد كان ذلك طريقاً موجهاً نحو التقسيم. لكن، وعلى الأقل، إن مشروع سوريا المفيدة للنظام وداعميه، بدأ يحتضر مع التدخل الروسي المباشر على عكس ما يبدو للوهلة الأولى، فسوريا المفيدة لا تعني ولا تفيد شيئاً إن سقط رأس النظام، وهو ساقط لا محالة، ليس لأن مجموع موازين القوى العالمية لم تعد قادرة على إبقائه بالمعنى الأخلاقي والسياسي فحسب، بل لأنه بات مضراً لأقرب المقربين له، وهم اليوم الروس المحكومين “ببطريرك شيوعي” ورجل مخابرات صغير، لن ينتج لروسيا سوى جنون عظمة وأوهام لن يطول الوقت حتى تصطدم بصخرة الواقع السوري والروسي والعالمي.
إن بوتين الذي يرى قزميته أمام الغرب، ويحاول الانتقام في سوريا “كزوج مخدوع” من ليبيا إلى أوكرانيا، يمضي في المستنقع الذي أرادته أمريكا له بالضبط، وإن كان يستثمر السياسة الواقعية التي اعتمدتها أمريكا في المنطقة، عبر قيامه بكرب “براغي” النظام وفرضه كأمر واقع، فإن استثماره لن يؤتي أُكُله على المدى المتوسط والبعيد، لأن الدور الذي لعبته إيران وسوريا في العراق عندما أغرقوا العراق بالإرهابيين، وحولوها لمستنقع للأمريكان، ذلك الدور هو ما ينتظر بوتين ذاته، ولكن من السعودية وأمريكا ذاتها، وبالتأكيد مجمل العالم الإسلامي السنّي.
الواقعية الأمريكية التي جرَّت العالم معها إلى إمكانية القبول بسوريا مقسمة، ومن ضمنها سوريا المفيدة للإيرانيين والنظام وإسرائيل، لن تغير من واقعيتها بعد التدخل العسكري المباشر للروس، ولكن ستغير من طبيعة واقعيتها فحسب، فالتدخل الروسي لصالح النظام يمنع بالمطلق الحل السياسي الذي صدّع لافروف رأس العالم وهو ينادي به احتيالاً، والبحث عن حل سياسي على طريقة النظام المعتمدة بوتينياً بالتمام والكمال، أي بتكسير الرؤوس، والإبقاء على معارضة “صحيّة” بموالاتها، لن يفضي إلا لمزيد من الحرب الأهلية وتمديدها وتمددها الكارثي على الجميع، وهذا لا يعني إلا زيادة في الهجرة التي تُرعب أوروبا، وزيادة في التطرف الذي يُرعب الجميع، وتكاثر المتطرفين الروس والشيشانيين الذين يعتقد بوتين “من كل عقله” أنه سيقضي عليهم في سوريا.
النظام السياسي المفيد، أي النظام الديمقراطي التعددي، الشامل لسوريا، والمنخرط في إعادة السياسة والسلام والاستقرار لسوريا في محيطها، وفي محاربة داعش بعد الأسد، هو البديل الوحيد عن “سوريا المفيدة”، والوهم بأن نظام الأسد قد يكون مفيداً لأحد، أو يمكن إعادة هيكلته، ليس إلا وهماً لن يطول الوقت قبل أن يظهر مدى انفصاله عن الواقع، مثلما كان تماماً منذ أربع سنوات ونصف حتى اليوم.
ماهر مسعود، كاتب وباحث سوري، ماجستير في الفلسفة الغربية.