علي فاروق
يُخطئ من يعتقد أن المشروع كان عفوياً، أو لحظياً؛ (مشروع المصالحات، والهدن)، وصولاً إلى عمليات التهجير القسري للسكان والمقاتلين إلى الشمال السوري، ومحافظة إدلب تحديداً.
يستطيع المتتبع لمجريات الثورة السورية، تمييز هذه المحطة البارزة باعتبارها تبدلاً نوعياً، جوهرياً في مسار الصراع ومجرياته، كما يمكنه تلمس مؤشرات دامغة على ارتباط هذا المشروع بوجود رغبة وإرادة، وربما قرار الدولي بتنفيذه، وليس أقلّها علم “الدول الصديقة” به، ومشاركة الأمم المتحدة في تنفيذه، وتبنيه لاحقاً بشكلٍ علنيٍ، من قبل السيد “ستيفان دي ميستورا”، من موقعه كمبعوثٍ دوليٍ، كشرطٍ لوقف العدوان على مدينة حلب.
مضى على خروجنا من مدينة قدسيا، ووصولنا إلى محافظة إدلب شهر تقريباً، وكان مقاتلو مدينة داريا قد وصلوا قبلنا بشهرٍ أيضاً، فيما كان وصول مقاتلي مدينة المعضمية بعدنا بأسبوعٍ، وجئنا جميعاً من محافظة ريف دمشق. وفيما من المتوقّع أن يتوالى وصول ثوار ومقاتلين من بقية مناطق دمشق وريف دمشق المنتفضة؛ كبلدة خان الشيح، وحي برزة، ومدينة التل، ومنطقة وادي بردى، وغيرها من المناطق والأحياء التي يتوعدها النظام بـ”الحافلات الخضراء”.
كان خروج مقاتلي مدينة حمص المحاصرة إلى الريف الشمالي، ومحافظة إدلب قبل هذا الوقت بسنتين تقريباً؛ فالتهجير ليس جديداً، وما عاد خافياً إذاً.
والسؤال المطروح الآن: لماذا لجأ النظام إلى “المصالحات” وعمليات التهجير إلى إدلب؟
انتقال زمام المبادرة..
عندما بدأت الثورة بمظاهراتٍ سلمية، منتصف آذار 2011، استعاد السوريون وللمرة الأولى منذ خمسين عاماَ، قياد حياتهم ومصيرهم، وأصبحت السياسة، والمجال العام الذي حرموا منه لعقودٍ، بين يديهم؛ فحاولوا اتخاذ قراراتهم، وتحديد مساراتهم، واختيار اتجاهاتهم. وقد استطاعوا خلال العامين الأولين توجيه دفة الحراك بطريقةٍ مقبولة، وإن شابتها العفوية وغياب التنظيم وانعدام القيادة المركزية.. ربما كانت تلك طبيعة انتفاضات الشعوب. وربما ناسبت تلك العفوية حراكاً شعبياً عاماً، بطابعه السلمي. وربما يكون ذاك ما مكنه من الاستمرار والتمدّد أفقياً وعمودياً داخل المجتمع. وقد استمر الوضع على ذلك النحو حتى تحول الثورة نحو الكفاح المسلح..
بعد تحول الثورة للعمل المسلح، جرى ما يمكن تسميته بتبدل المواقع بين مَن يمسك بزمام المبادرة، ومَن يقوم بردات الفعل؛ فالنظام الأمني، وحلفاؤه يجيدون الحروب العسكرية، ولطالما اتخذوا الجيوش وأجهزة الأمن، وسائل شبه وحيدة لحكم مجتمعاتهم، وإدارة ملفات علاقاتهم الدولية. لذلك حاول النظام منذ اليوم الأول للثورة، وبتخطيطٍ من قادته الأمنيين، وتوجيهٍ من حلفائه، لدفع المنتفضين عليه لحمل السلاح، وكان ذلك بصورةٍ رئيسةٍ عبر استخدام قوة مفرطة، وممنهجة في عمليات القمع، وعبر العمل على تحريض النعرات الإثنية والطائفية أيضاً..
فالنظام السوري وحلفاؤه يعلمون بأنهم سيتفوقون في الحرب، طالما هم يمتلكون السلاح والتنظيم ومصادر التمويل. كما يعلمون أن حراكاً شعبياً غير منظمٍ ولا مدعومٍ يَسْهُل جره إلى حربٍ غير متكافئةٍ، تنهي ثورته وتقوض أهدافها كلياً.
أيام المظاهرات كانت قوات الأمن ومليشيات الشبيحة تُصاب بالتشتت والاستنزاف؛ ففي كل جمعة تخرج نقاط تظاهرٍ جديدةٍ لم تكن تخرج من قبل. وقد شكل هذا قوة الثورة، وكان وسيلتها للاستمرار..
لكن مع تحول الثورة للعمل المسلح تغير الحال، وانتقل زمام المبادرة؛ فأصبح النظام هو من يحدد مكان المعارك وتوقيتها وسلاحها.
حدد النظام في البداية مناطق معينة (بابا عمرو، الزبداني، دوما)، وعمل على تضخيم صورتها، والترويج لها باعتبارها مراكز ثقل الثورة، وتوعد بتصفيتها والقضاء عليها، وحين يتحقق له ذلك، تكون الثورة “خلصت”..
إلا أن تلك المقاربة فشلت، بسبب الزخم الشعبي الذي كانت تحظى به الثورة. ومع نهاية العام 2012، وبداية العام 2013، كان النظام على شفا الانهيار، لذلك تدخل الإيرانيون في تلك اللحظة، واجترحوا مقاربة أخرى مختلفة؛ وتتمثل بتقسيم المناطق الثائرة، والفصل بينها بشكلٍ تامٍ، وتحديد المناطق الاستراتيجية ذات الأهمية السياسية والعسكرية، (حمص القديمة، القصير، القلمون..)، والتي يجب استعادتها بسرعةٍ، وإخضاعها للسيطرة بشكلٍ كاملٍ. ومناطق أخرى تُطبق عليها أنواع متدرجة من الحصار والتضييق، وتُفرض عليها “تسويات” و”مصالحات” و”هدن مؤقتة”، ريثما يحين الوقت وتكتمل الظروف وتنضج التوافقات الدولية، ويحصل النظام على الضوء الأخضر من القوى المسؤولة عن الملف السوري، والتي بات همها الأساسي محصوراً بمحاربة “الإرهاب”..
سيناريو “غروزني”..
بعد إتمام الجزء الأكبر من الخطة الإيرانية، جاء دور الخطة الروسية المكمِّلة، والتي تقضي بتحييد الجبهات الجنوبية، وإحكام السيطرة على مناطق الوسط (حمص، حماة)، وغرب البلاد (طرطوس، اللاذقية)، وتصفية جيوب الثورة والمقاومة في محيط العاصمة دمشق وغوطتيها الغربية والشرقية، ونقل المقاتلين والثوار إلى محافظة إدلب بحدودها الجديدة: من ريف حلب الغربي شمالاً، إلى ريف حماة الشمالي جنوباً، ومن بلدة كباني في شمال جبال اللاذقية غرباً، إلى ريف حلب الجنوبي، حيث يسيطر تنظيم “داعش” شرقاً، تمهيداً للخطوة التالية، والنهائية..
يكاد يُجمع كل من التقيت بهم في محافظة إدلب، أن غاية النظام وإيران وروسيا من عمليات التهجير، هي تجميع المعارضين والمقاتلين في مكانٍ واحدٍ، استعداداً لشن حملة عسكرية كبيرة، تستخدم فيها روسيا ترسانتها الهائلة، كما فعلت في العاصمة الشيشانية غروزني شتاء العامين (1999-2000). وهم يستبعدون أي سيناريو آخر؛ كأن يكون التهجير مقدمةٍ للتقسيم أو الفيدرالية، أو القبول بمناطق حكم ذاتي للمعارضة تحظى بحماية دولية أو إقليمية. كما يستبعدون أن يكون هدف النظام هو السعي للسيطرة على “سوريا المفيدة” فقط، فيما يترك جزء من البلاد تحت سيطرة الثوار، كما جرى في سيرلانكا مع متمردي “التاميل”، أو في كولومبيا مع عصابات “فارك”، وهم يتوقعون أن تبدأ ضدّهم، وضدّ المهجرين إليهم، حملة إبادة شاملة، بعد القضاء على الثوار في مدينة حلب.
بكل الأحوال، ومهما كانت السيناريوهات التي يعد لها النظام، فإن الأكيد أن الثورة والثوار السوريين، قد وصلوا إلى مرحلة بالغة الصعوبة والتعقيد، وأن ما بعد هذه المرحلة لن يكون كما قبلها على الإطلاق.
مواليد العام 1981، يحمل إجازة في الحقوق، طالب ماجستير في العلاقات الدولية – كلية العلوم السياسية، ومعتقل سابق، كاتب رأي، مهتم بالقضايا السياسية، والقانونية، والاجتماعية.