في كتاب “من الانتداب إلى الانقلاب” عرضت الأستاذة سعاد جروس لمعركة خاضتها الحركة الوطنية السورية، ممثلة بالكتلة الوطنية، من أجل ضمان وحدة سوريا أرضا وشعبا، ضد الانتداب الفرنسي، الذي قسّم سوريا إلى خمس دويلات، وضد قوى سورية تبنت هذا التقسيم وسعت إلى تكريسه عبر المطالبة بكيانات خاصة لاعتبارات مذهبية وقومية( تيار علوي في الساحل وآخر درزي في السويداء وثالث سرياني- كردي في الجزيرة السورية).
وقد نجحت الكتلة الوطنية في تغليب الاتجاه الوحدوي عبر العمل على الأرض مع القوى المؤيدة لسوريا واحدة في المحافظات الثلاثة وتعزيز صفوفهم والتأثير على أصحاب الرأي الآخر، ما اضطر المندوب السامي الفرنسي إلى العودة عن قرار التقسيم وإعادة توحيد سوريا في دولة واحدة ونظام سياسي واحد.
غير أن مشاريع تقسيم المنطقة، بما فيها سوريا، لم تتوقف، وقد سعت إسرائيل إلى تقسيم الدول العربية إلى دول دينية ومذهبية كي تضعف أعداءها من جهة وتبرر طبيعتها الدينية من جهة ثانية وطرحت لذلك مشروعا أعده بن غوريون قائم على افتعال حرب أهلية ممولة إسرائيليا وخلق اضطرابات بين طوائفه واستغلال المآسي والقطيعة النفسية في تقسيم البلد، وناقشه اجتماع وزاري عقد يوم 27/2/1954 ضم كلا من موشية شاريت وبن غوريون، واسحاق لافون. عارض شاريت، كان رئيسا للوزارة حينها، الفكرة لان الموارنة ليسوا أغلبية، ولأن إعلان دولة مارونية سيؤدي إلى اندماج المسلمين مع أراضيهم الشاسعة جدا بسوريا، وبذلك تصبح الدولة المارونية محاطة بدولة إسلامية ضخمة، وعدم وجود ضمانات مادية ومعنوية كافية دوليا وإقليميا للمشروع. وقد جرى عرض المشروع على اللبنانيين يوم 12/2/1955 في لقاء عقد بين الياهو ساسون، السفير الإسرائيلي في روما، ونجيب صغير، ممثلا عن كميل شمعون، وتمت مناقشة شروط التنفيذ، وبُعث بعد حرب الـ 67 عند وصول دايان إلى وزارة الدفاع حيث بدأ البحث عن ضابط ماروني مستعد لإعلان دولة منقذة للموارنة وعن ذريعة(عمليات فدائية تنطلق من لبنان). يمكن اعتبار دولة لبنان الجنوبي التي أعلنها سعد حداد تجسيدا عمليا للمشروع.
وسّعت إسرائيل الفكرة لتشمل معظم الدول العربية. ففي دراسة كتبها “يديد ينون” تحت عنوان “إستراتيجية لإسرائيل في الثمانينيات”، اعتبر فيها سلطات الأمر الواقع التي أفرزتها الحرب الأهلية في لبنان خريطة للبنان الجديد المكون من خمسة كانتونات، ورأى فيها نموذجا لتفتيت دول المشرق العربي إلى أقاليم ذات طابع قومي وديني، وعليه سوف تظهر في سوريا دويلة علوية على الساحل، ودويلة سنية في دمشق، ودويلة سنية ثانية في حلب، معادية لدويلة دمشق، ودويلة للدروز في الجولان وحوران.
انطلق الكاتب من “إن جميع الدول العربية الموجودة إلى الشرق من إسرائيل مقسمة ومفككة من الداخل”، و”إن سوريا لا تختلف اختلافا جوهريا عن دولة لبنان الطائفية باستثناء النظام العسكري القوي الذي يحكمها، ولكن الحرب الداخلية اليوم (يشير إلى الصراع الذي انفجر في الثمانينات بين النظام وجماعة الإخوان المسلمين) بين الأغلبية السنيّة والأقلية الحاكمة من الشيعة العلويين، الذين يشكلون 12 في المائة من عدد السكان، تدل على مدى خطورة المشكلة الداخلية”.
واضح أن دعاة التقسيم يستندون إلى ما تعرفه المعادلة الوطنية من تفكك داخلي ويعتمدون على الحرب الأهلية كبيئة لولادة التقسيم. فالتفكك الداخلي الذي ترتب على فشل الأنظمة الوطنية وعجزها عن التعاطي مع العصر وشروطه ومتطلباته من جهة وعلى لعب الأنظمة التسلطية على هذا التعدد والتباين لإضعاف المجتمع والسيطرة عليه بتكريس الفرقة والهشاشة الوطنية من جهة ثانية. فقد بقيت الأنظمة الوطنية التي تسلمت السلطة بعد الاستقلال أسيرة تصوراتها ومفاهيمها التقليدية والخلط بين الدولة المستندة إلى الجماعة الدينية والدولة المستندة إلى الجماعة الوطنية ما جعلها اقرب إلى سلطة سنيّة منها إلى سلطة وطنية جامعة، في حين غذت الأنظمة التسلطية الانقسامات ووظفتها للاستئثار بالسلطة ولجم تطلعات المجتمع إلى الحرية والكرامة والمشاركة في صياغة القرار الوطني، عبر تعزيز مخاوف الأقليات، وإدارة الحياة الوطنية بالترويج لخطر الأغلبية وتشكيل تحالف الأقليات.
أطل مشروع التقسيم برأسه مجددا في ضوء الانقسام الطائفي والهواجس والمخاوف بين أبناء المجتمع وبخاصة أبناء الأديان والمذاهب الإسلامية الصغيرة بسبب انخراط إيران في الصراع إلى جانب النظام وتعميقها الشرخ بين السّنة والشيعة بزجها الميليشيات الشيعية في الصراع إلى جانب النظام، وبروز الحركات السلفية ومشروعها لإقامة خلافة إسلامية وتطبيق ما تعتبره شرع الله وسلوكها الهمجي ضد أبناء الأديان والمذاهب الأخرى، وتبني روسيا سياسة حماية الأقليات لتبرير الدور الذي تلعبه في الصراع في سوريا وعليها حيث وقفت منذ انطلاق الثورة إلى جانب النظام ودعمته سياسيا وعسكريا وماليا.
لن تتراجع الهواجس والمخاوف ويتجه المجتمع إلى التعافي والاندماج تحت سقف وطن واحد ونحافظ على الدولة السورية ما لم يتحرر المجتمع من ذهنية عزل المختلف ورفضه من جهة وذهنية الحصار والتقوقع الذي يعيشه أبناء الأديان والمذاهب الإسلامية الصغيرة من جهة ثانية، وهذا لن يتحقق دون صياغة النظام السياسي وفق اعتبارات وطنية بعيدا عن منطق الأكثرية والأقلية الدينية أو المذهبية أو العرقية، وإقامة دولة وطنية حديثة ترتكز إلى الجماعة الوطنية، كأساس موضوعي للاندماج الوطني، وما لم يصغ عقد اجتماعي أساسه المواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات والحريات العامة والخاصة يجسد وحدة المجتمع وكيانه الوطني الجامع. وهذا يستدعي من قوى الثورة، السياسية والعسكرية، الاقتداء بأسلافهم في الكتلة الوطنية الذين أعادوا إلى سوريا وحدتها عبر الحوار الوطني مع أبناء الأديان والقوميات والمذاهب الصغيرة، والتحرك لرأب الصدع عبر التصرف العملي بدلالة سوريا الواحدة الموحدة أرضا وشعبا.
كاتب وناشط سياسي سوري