المغيّبون في سوريا الذين لا نعرف أسماءهم ولا عنهم أكثر ألف مرّة من الذين نعرف عنهم. وأولئك الذين شقّ الطاغية الوقت ورماهم في هوّته أكثر من هؤلاء وأولئك. إنّه الشقّ المُعتم لما نعتبره توافق على حقّ الدولة في احتكار العنف. وهو احتكار مُنح للدولة كي تستطيع تحمّل مسؤولياتها في إطار “العقد الاجتماعي”، وتحديدًا لفرض سلطة القانون على الجميع، وحماية حيواتهم وحقوقهم وممتلكاتهم. هكذا افترض هوبس ولوك وروسو وغيرهم من مفكّرين أفنوا أعمارهم في إنتاج صيغة نظريّة وعمليّة معقولة للاجتماع البشريّ ضمن كيان الدولة الحديثة. لكنّهم يقينًا لم يتصوّروا في أبشع سيناريوهاتهم دولة كسوريّة آل الأسد ونظام كنظام التوحّش الذي أقاموه على أرض الشام.
في الشام، الأرض والتاريخ، نشأ نظامٌ يُجسّد ما أسمّيه “الدولة بوصفها عصابة”. وهي دولة تتجاوز في منظومتها وبنيتها الدولة المستبدّة أو التي تُمارس الإرهاب. في حال نظام آل الأسد انتقلت “الدولة” بمجتمعها إلى “الحالة الطبيعية” التي تأتي بعد انهيار العقد الاجتماعيّ (هناك حالة طبيعيّة قبله). العقد الاجتماعي يأتي حسب مفكّريه بعد أن تكون “الحالة الطبيعيّة” خلقت الفوضى التي يروح ضحيّتها البشر بسبب ودون سبب. في الحالة الطبيعيّة التي نشأت في سوريا مع “الدولة بوصفها عصابة”، هو إلغاء كليّ ومُطلق لإنسانيّة الإنسان؛ باعتباره التهديد الاحتماليّ والفعلي للعصابة. فأن تكون إنسانًا ولو سالبًا، تكتفي بثلاث احتياجات فقط على سلّم ماسلو، تأمن الشرّ في كل ما تفعل، حتى لو كنت بهذه المحدودية من وجودك فستكون تهديدًا لنظام عصابة، لا يقوم إلّا على عكس ما في لفظة الإنسان من دلالات. من هنا هذا العداء البنيوي، ليس للمعارض فقط ولا للمختلف ولا للذي يُغني أو يرسم أو يُفكّر، بل للإنسان السوريّ بوصفه إنسانًا، هو النقيض المُطلق للعصابة.
كلّ ادّعاءات نظام العصابة الأسديّ لتبرير تغييب البشر ومحوهم كأنّهم كلمة في سطر، أو سطر في صفحة، لا يُمكنها أن تغطّي على حقيقة أن النظام يُمارس وجوده وقوّته بوصفه نقيضًا للوجود الإنساني في شكله الخام. أمّا المُشكلة فكامنة في كونه يستمدّ “شرعيته” من تنظيرات الدولة الحديثة القائمة على أساس نوع من العقد أو نوع من المعقوليّة، والأهمّ على أساس شرعية من الدول والمجتمعات الأخرى. وهنا السؤال: كيف يُمكن لنظام التوحّش أن يحظى بشرعيّة، وأن يُعاد تأهيله وفي ذمّته عشرات الألوف من المغيّبين قسراً، من اللبنانيين والفلسطينيين أيضاً، وهم ليسوا مواطنيه؟ بمعنى كيف حصل أن يواصل هذا النظام استعمال كلّ هذه البطش وكل هذا التنكيل بالإنسان السوريّ والفلسطينيّ واللبنانيّ في بثّ مباشر دون أن يأخذ العالم منه موقفًا أو أن يردعه؟
السؤال سهل بينما الإجابة عليه صعبة، بمعنى أنها لا تحمل بُشرى أو متنفّسًا لأحد. لا يُمكن لنظام آل الأسد أن يعمل وأن يستمرّ بدون حماية من أنظمة مشابهة. لكن الحقيقة الأكثر إيلامًا هي أن نظام العولمة يسعى إلى إقامة أنظمة كهذه و”صيانتها” في إطار إدارة العالم وفرض السيطرة على موارده، وضمان أقصى حدّ من مصالح المراكز. بمعنى ما إن نظام التوحّش لآل الأسد باق ويُعاد تأهيله لأنه يخدم مصالح المراكز التي تُدير نظام العولمة أو الإقليم. وعليه، لا أتوقّع الكثير، لا في ملفّ المغيّبين ولا في ملفّ تدمير البلد والمجتمع وتحويله إلى محميات لكيانات ومراكز أجنبيّة، إلّا إذا تغيّرت خارطة المصالح واختلطت من جديد. فالشام كالإقليم كلّه غير مستقرّ إلّا في كونه حيّزًا لمصالح عديدة تتنافس عليها مراكز قويّة، وتستعمل السوريين وقودًا في الحروب والنزاعات بينها.
في ندوة ناقشت كتابًا عن الربيع العربي بعد عقد على بدايته، عُقدت في “الجامعة العبريّة” في القدس. كنتُ المشارك الفلسطينيّ الوحيد. وقد أشرت في بداية مداخلتي إلى كون معظم التحليلات استشراقية؛ تأتي من موقع معادٍ للربيع العربي بوصفه مصدر تهديد لاستقرار الدول والأنظمة التي رست في معظمها على توافق مع الرؤية الاستراتيجية للمنظومة الاستعمارية الإسرائيلية. وقُلت: “يؤسفني أنكم ترون الدول والأنظمة ولا ترون الناس، الإنسان، الحق في الحياة والحريّة”. ردّت عليّ إحدى الجالسات إلى جانبي دون أن يرفّ لها جفن: “طبعًا، يا حضرة الأستاذ. هذا ما يهمّني كيهودية هنا. ولا يعنيني أي شيء آخر. عليّ الاهتمام بوجودي وبأمني هنا”. للقول إن كلّ المراكز المحيطة بسوريا تنظر إليها من منظار مصالحها، وهكذا المراكز العالمية. أما الشعب في سوريا، أو ما تبقّى منه، هو ورقة لعب في إطار السعي لتحقيق المصالح.
ما سقته آنفًا لا يعني التنازل عن حقّنا كبشر في إبقاء ملفّ المغيّبين حاضرًا حيثما نستطيع من منابر ومحافل. فهذا واجبهم علينا نحن الذين نتمتّع بالحريّة إلى أجل غير مسمّى قد ينتهي غدًا أو بعد غد، في إطار لعبة المصالح ذاتها. لكن ما لا يقلّ أهميّة هو الإسهام في جهد لا يُحدّ ولا يُسمّى لإنتاج سوريا أخرى معقولة لأجل مَن سيعود من المغيّبين واللاجئين والنازحين والناجين من المجزرة.
من أجل سوريا دولة معقولة وليس بوصفها عصابة! مثل هذا الجهد لا يُمكنه أن يكون مقطوعًا عن أمريْن:
الأوّل: عن سعي مماثل في الإقليم وفي العالم لاستعادة الدولة المعقولة، وتحريرها من هيمنة مراكز العولمة.
والثاني: ربط هذا السعي بمنظومة أخلاقيّة متكاملة لا ترى الدول بقدر ما ترى الإنسان ووجوده وكرامته وحقوقه كلّها.
مثقّف نقديّ يأتي من مجالات الحقوق والعلوم السياسيّة والاستشراف. شاعر وناقد ثقافي. يدرّس العلوم السياسية والأدب. له إسهامات في مقاربة موضوعات العولمة والهويّة واللغة والأخلاق وما بعد الحداثة.