ثقافة

منير الشعراني في تحدّي المنجز

الشعراني لـ ”طلعنا عالحرية”:
“ أدعو في أعمالي إلى وطن يساوي بين أبنائه جميعًا”

يُبدع الخطاط والتشكيلي السوري المعروف منير الشعراني (مواليد السلمية 1952) في استنطاق خامات الحروف والإشتغال على التفاصيل الدقيقة ليبدو منجزه البصري وكأنه يرسم لا يكتب.. وهو في كل أعماله غير منفصلٍ عن واقع بلاده هناك حيث دمر الطغاة أكثر من ثلث عمران البلد، وقتل واعتقل مئات الآلاف من السوريين وشرد الملايين. ومن دمشق، من قلب الوجع السوري والأحداث الداميّة تخرج لوحات ضيفنا، لتكون سفيرة القيم والأفكار السورية النبيلة والعطاء الفني المشبع بالحرية، والرافض للاستبداد والاستبداد المضاد والظلامية.. فكان أن شارك في العديد من المعارض خارج وطنه النازف في السنوات الأخيرة، والتي كان آخرها معرض “إيقاعات خطية”، الذي تحتضنه صالة “أروبيا” في العاصمة الفرنسية (باريس)، في الفترة مابين (15 أيلول/ سبتمبر وحتى 28 أكتوبر/ تشرين أول الحالي)، وهو ما أتاح لنا فرصة لاجراء هذا الحوار..

بداية كيف استقبل الجمهور الفرنسي معرضك هذا، الذي قدمت فيه منجزكَ البصري الذي تعمل من خلاله على إحياء الماضي بالحاضر، وهنا أسألك: كيف تنتقي العبارات التي تبني عليها هذا المنجز؟

– أستطيع القول إنني في الافتتاح وفي الأيام الأولى التي كنت متواجدًا خلالها في المعرض لمست حضورًا واهتمامًا وإقبالًا جيدًا لفرنسيين، وقد عبّر لي كثير منهم عن إعجابهم بما عرضت، وكان بينهم عدد من المتابعين والمهتمين بتجربتي وخصوصيتها وقد سبق لبعضهم اقتناء أعمال لي.

أمّا عن المنجز البصري فأنا لا أسعى إلى إحياء الماضي بالحاضر، بل أسعى إلى الإنطلاق من المنجز البصري الذي توقف عن التطور والتجديد بشكل متواز مع  التدهور الحضاري وحلول الجمود والسلفية والجهل محل النهوض الحضاري الذي سبقه، أسعى إلى البحث عن المسكوت عنه والمجهّل والمغيّب من هذا المنجز في غيابات المتاحف وفي سجن القدسيّة الذهبي الذي وضعه فيه العثمانيون بعد أن أهملوا معظمه ممّا لم يتّفق مع ذائقتهم وجمودهم وتخلفهم الحضاري، وقننوا استخدام ما تبقى وربطوه بالمقدّس وحده بعدما كان يضفي جماله على الحياة في نواحيها المختلفة، أعمل على الانطلاق من الجذور العميقة لدوحة الخط العربي الغنية بالثمار إلى التطوير والتجديد والإضافة لإعادة هذا الفن شديد الخصوصية والتميّز إلى مكانته الطبيعية اللائقة بين الفنون الجميلة.

في ما يخص العبارة التي أبني عليها فهي بالنسبة لي المحتوى الذي يقوم عليه الشكل وهما –المحتوى والشكل-  يتكاملان ويفعل كل منهما في الآخر ليحققا المنجز البصري، ليس في العمل الواحد فحسب بل في مجمل الأعمال التي تشكل هذا المنجز وتصب فيه وتنتمي إليه، ليأتي معبرًا عني وعن فكري وعن تطلعاتي وعمّا أهتم به وأحفل له، لذا أقوم دومًا أثناء قراءاتي بتدوين ما أراه يصب في رؤيتي ويعبر عن أفكاري في ما يخص الحق والخير والجمال وما يرتبط بها من قضايا الإنسان وتوقه إلى الحرية والعدل والحب وغيرها من المسائل.

يرى متابعون لمسيرتك الفنية أن الجديد من لوحاتك في سنوات الجمر السوريّة، يصلح لأن يكون خطابًا سياسيًا واجتماعيًا متخففًا من الخطابة والفجاجة. فهل فرض عليك الحدث المزلزل في بلدنا هذا النوع من العمل؟

يستطيع المتتبع لأعمالي ولتسلسلها منذ بداية تجربتي وحتى اليوم أن يرى بوضوح أن ماذكرته في الفقرة الأخيرة من جوابي السابق حول العبارة ينطبق مع مجمل إنتاجي الذي عملت  خلاله على تحرير فن الخط العربي من قفص القدسية الذهبي ومن الغيبيات والماورائيات وحرصت على إعادته إلى الحياة والوجود وكل مايمس الإنسان بشكل مغاير لما آل إليه حاله بعد قرون من الجمود والسلفية والتقليدية، وما أعمالي الأخيرة إلا حلقة في سلسلة أعمالي المعنية والمهمومة بما ذكرت لكن ربما كان بعضها أكثر مباشرة من حيث المحتوى من أعمالي الأخرى، ربما أصبح هناك تركيز في اختيار العبارات على القضايا الملحّة الساخنة، ربما شعرت بحاجة إلى إعلاء الصوت في طلب الحرية ورفض الاستبداد والاستبداد المضاد والظلامية والظلم والتبعية والتعصب الديني والمذهبي والقومي والجنسي وفي السعي إلى وطن يساوي بين أبنائه جميعًا بغض النظر عن جنسهم أو دينهم أو مذهبهم أو إثنيتهم، لكني كنت في كل أعمالي التي أنتجتها في هذا السياق وعلى مدى هذه السنوات حريصًا كل الحرص على عدم التفريط بالشكل والبناء الفني وعلى إنتاج أعمال يتكامل شكلها ومحتواها وتليق بما تنادي به في سبيل الوطن وناسه.

تقول: “يقيني أن ليس هناك نقطة أخيرة في الفن، واقتناعي أن على الفنان أن لا يعمل على تجاوز المُنجَز فحسب، بل عليه أن يعمل دومًا على تجاوز منجزه أيضًا”. هل استطعت بعد كل مواسم العطاء هذه أن تحقق ما كنت تصبو له يوم بدأت رحلة الفن والأمل؟

نعم ليس هناك نقطة أخيرة أو ذروة في الفن، وتاريخ الفن يشهد بذلك ويعلمنا أن المنجز الفني العام يتطور باستمرار عبر تراكمات من الإنجازات الفردية تؤول إلى إضافات ونقلات نوعية على أيدي فنانين إستثنائيين لايتجاوزون منجز من سبقوهم فحسب بل ويتجاوزون منجزهم ويؤسسون لمرحلة جديدة سرعان ما تضاف إليها إنجازات أخرى.. وهكذا دواليك، ليبقى قلب الفن نابضًا حيًا متجددًا ومجددًا للحياة منعشًا لها. أعتقد أنني استطعت أن أعمل بجد ودأب وإصرار على الإضافة والتجديد وتجاوز المنجز في فن الخط العربي نظريًا وعمليًا بعد زمن طويل مرّ عليه من الجمود والتقليدية والسلفية، وأعتقد أنني قمت بإنجاز لا يمكن إنكاره في هذا المجال على الرغم من كل العقبات المتنوعة التي اعترضت مسيرتي في سبيل ذلك، لكنني أرى أنه مايزال هناك الكثير مما أصبو إليه وأودّ وأقدر على القيام به، فأنا على قناعة بـقول الحكم بن أبي الصلت: “إنّ العزائم من أنصارها القدر”، أما الحكم على مدى نجاحي في ذلك وعلى تجربتي بكليتها فهو ليس ولا يمكن أن يكون لي.

Click to comment

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

To Top