لا يمكن، في الحقيقة، الحديث عن منظمات حقوق إنسان ومجتمعٍ مدنيٍّ “كما هو متعارف عليه” عشية الثورة السوريّة عام 2011.
بالعموم فقد بدأ مصطلح منظمات المجتمع المدني عالمياً عبر الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان عام 1948، ولم يدخل إلى المجتمعات العربيّة إلا في بداية الثمانينيات. ومصطلح منظمات حقوق الإنسان كذلك لم يعرفها العالم الحديث إلا في بدايات الثمانينيات كذلك، ولم تصل إلى العالم العربيّ إلا متأخرةً. وربما كانت سوريا من أوائل الدول العربية التي سارع النشطاء فيها لتأسيس منظمات حقوق إنسان في عام 1989 عبر تأسيس لجان الدفاع عن الحريات الديموقراطية وحقوق الإنسان.
في الخاص السوري، يحمي الدستور السوريّ الذي وضعه حافظ الأسد -من حيث النصوص- الكثير من الحقوق الأساسية، ومنها حرية التعبير وحرية تكوين الجمعيات مع الآخرين. والمادة 38 من الدستور تضمن حقَّ كلِّ مواطنٍ في “أن يعرب عن رأيه بحرية وعلنية بالقول والكتابة وكافة وسائل التعبير الأخرى” وأن “يسهِم في الرقابة والنقد البناء بما يضمن سلامة البناء الوطنيّ والقوميّ ويدعم النظام الاشتراكي”. وتكفل المادة 39 للمواطنين الحقّ في الاجتماع والتظاهر سلمياً وينظم القانون ممارسة هذا الحق. ولكن لم تصدر أي قوانين لتنظيم ممارسة المواطنين لحقوقهم، بل كانت القوانين التي تصدر تمنع المواطنين من ممارسة هذه الحقوق، مخالفة للدستور في ظلِّ عدم وجود آليةٍ بيد المواطنين لإلزام السلطة بتطبيق الدستور وإلغاء القوانين المخالفة له.
ومن حيث الممارسة، استعانت السلطات السوريّة بحالة الطوارئ المطبّقة منذ عام 1963 والتشريع المقيد المصاحب لها، في قمع أنشطة المنظمات غير الحكوميّة وجماعات حقوق الإنسان. والدافع وراء هذا المنهج هو الرؤية الرسميّة بأنه ليس من المفترض بالمنظمات أن تكون بديلةً عن المؤسسات الحكومية، بل أدوات في يد الحكومة لتنمية المجتمع وصيانة أهداف الثورة البعثيّة!
ويحكم إنشاءَ الجمعيات في سوريا القانونُ رقم (93) لعام 1958 الخاصّ بالجمعيات والمؤسسات الخاصّة أثناء الوحدة بين مصر وسوريا (1958 – 1961)، وتأثر كثيراً بأفكار أن على الدولة التحكّم في المجتمع وتوجيهه. والكثير من التفاصيل القانونيّة المتصلة به توجد في اللائحة التنفيذية المصاحبة له التي تمَّ تبنّيها بواسطة المرسوم الرئاسي عام 1958 (اللائحة التنفيذية الصادرة بموجب مرسوم رقم 1330 في 13 أكتوبر/تشرين الأول 1958). وفي عام 1969 عدّلت السلطات السوريّة من بعض أحكام القانون بمرسومٍ تشريعيٍّ رقم (224) بحيث تزيد من رقابة الدولة على الجمعيات.
وأحد الأحكام الأساسيّة التي أضافها المرسوم التشريعي رقم (224) يسمح للحكومة “بدمج” الجمعيات التي تؤدي أعمالاً متشابهة، وقدّم كذلك فكرة عدم وجود الحاجة لأكثر من جمعيةٍ واحدةٍ لأداء النشاط نفسه. وكما نعرض فيما سيأتي، فإن الحكومة قد اعتمدت مراراً على هذا المفهوم في رفضها إشهار جمعيات غير حكومية جديدة. وأحد الأحكام الهامّة تسمح بحلِّ الجمعيات دون اللجوء إلى القضاء.
وقد نصّب القانون وزارة الشؤون الاجتماعيّة والعمل الجهة المسؤولة عن إدارة القانون، بما في ذلك ممارسة سلطة حلِّ الجمعيات. إلا أنه من حيث الممارسة وبموجب قانون الطوارئ كان القرارللسلطات الأمنيّة السورية، حيث تتطلب الموافقة على الطلب موافقة ثلاثة أجهزة أمنيّة، هي أمن الدولة والأمن السياسيّ والأمن العسكريّ.
ممّا أدى لعدم وجود منظمات لحقوق الإنسان أو أيِّ شكلٍ من منظمات المجتمع المدنيّ إذا استثنينا رابطة النساء السوريات التي كانت تعمل في مجال المرأة وحقوقها ومرخصة منذ الخمسينيات، واستمر نشاطها بشكل ضعيف تحت حماية الحزب الشيوعيّ السوريّ “جناح يوسف فيصل” الذي كان حليفاً للنظام ضمن الجبهة الوطنيّة التقدميّة، بالإضافة للجمعيات السكنيّة وجمعيات مساعدة الفقراء والأيتام والنقابات والجمعيات الحرفيّة المعينة من قبل السلطة التي كانت، وحسب تعديل قانون النقابات الذي قامت به السلطة السوريّة عام 1981 “بعد حلِّ مجالس الإدارة المنتخبة التي كانت موجودةً وتعيين مجالس إدارة جديدة” كانت كلّها مجرد أدواتٍ بيد السلطة السوريّة لقمع فئات المجتمع وتدجينهم، وليس أداةً للتعبير عن مصالحهم.
رئيس المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية، محرر قسم حقوق الإنسان والمجتمع المدني في مجلة طلعنا عالحرية