نقاط يجب التوقف عندها
إن الثورة في أحد أهم أشكالها هي عملية تفكيك وإعادة بناء وهيكلة للبنى والوحدات المؤسسة للمجتمع بشكله العام، ولا تقتصر عملية إعادة البناء على عدد الوحدات وأنواعها وأشكالها بل تتعداه لتشمل الدور الوظيفي لهذه الوحدات، ولا يقصد هنا بالوحدات الوحدات المشكلة للمجتمع السياسي القائم على مفهوم السلطة وما يرتبط بها فقط، بل يتعداه ليشمل المجتمع المدني من حيث المفهوم والوحدات والأدوار المناط بالمجتمع المدني ومنظماته القيام بها.
والجميع يدرك أن المجتمع المدني في مرحلة ما قبل الثورة كان مغيباً بشكل كامل، وما كان يمكن أن يصنف باعتباره منظمات مجتمع مدني لم تكن أكثر من منظمات كرتونية تسير في بحر شرعنة نظام ديكتاتوري قائم بحكم الأمر الواقع. ومع تفجر الثورة وانكسار الحدود المقيدة للمجتمع السوري أصبح المجال أوسع للقوى الفاعلة ضمن المجتمع أن تطرح رؤى لتشكيل منظمات تطوعية هدفها تقديم الخدمة العامة غير الربحية التي تستهدف تنمية المجتمع بأحد قطاعاته؛ أي العمل على تشكيل منظمات مجتمع مدني وفق المفهوم الحديث، وقد انطلق ذلك بوعي في بعض الحالات وفي أخرى نتيجة الحاجة لتلبية الحاجات المجتمعية التي ولدتها الظروف، وطبعاً كانت الغوطة الشرقية في خضم هذه التغيرات، ولكن هذه الحالة لم يرافقها دائماً الثقافة المجتمعية الضرورية القادرة على إنجاح التجربة ووضعها في مكانها المجتمعي الصحيح، وقد تجلى ذلك من خلال بعض الآثار المجتمعية السلبية التي بدأ يفرزها وجود بعض هذه المنظمات في بعض المراحل والذي ظهر بشكل كبير بعد تحرر الغوطة وغياب السلطة البديلة الحاكمة.
فالناظر اليوم إلى واقع منظمات المجتمع المدني في الغوطة الشرقية منذ عام 2012 إلى عام 2015 يرى ازدحاما هائلاً في عدد المنظمات التي يمكن إدراجها تحت يافطة منظمات المجتمع المدني والتي تتنوع اختصاصاتها واهتمامات عملها ما بين تقديم الخدمات الصحية والتعليمية والإغاثية والزراعية والتنموية وخدمات ذوي الاحتياجات الخاصة أو المنظمات القائمة على أسس تنظيمية كتجمع المعوقين أو رابطة المعلمين أو رابطة الأكاديميين وما شابهها، أو بعض التجمعات السياسية غير الحزبية أو الملتقيات الفكرية ومراكز دراسات و مراكز إحصاء، ومجلات وجرائد ومراكز تأهيل نفسي ومهني وغيرها العديد العديد من المنظمات التي يمكن أن تصنف تحت يافطة منظمات المجتمع المدني.
وطبعا فإن هذا الازدحام يعطي مؤشراً إيجابياً عن مدى ازدياد فاعلية المجتمع السوري عموماً ومجتمع الغوطة الشرقية خصوصاً، ولكن هذا لا يلغي وجود العديد من النقاط التي يجب التوقف عندها في العموم في دراسة تجربة منظمات المجتمع المدني في الغوطة ولعل أهمها:
1 – غياب الناظم القانوني الضابط لعمل هذه المنظمات سواء من جهة الإشهار أو التخصص أو الإفصاح عن مصادر التمويل، ونتيجة هذا الغياب وجدت بعض المنظمات نفسها في حل من أي مساءلة أو مراقبة، وبذلك انطلقت هذه المنظمات دون أي ضابط لعملها سوى توجهات وعقلية الأفراد القائمين عليها، خاصة أن هذه المنظمات لم تُشكل على أُسس مؤسساتية صحيحة، بل بمبادرات فردية ولذلك فقد صبغ عمل هذه المنظمات بالمجمل بالصبغة الفردية.
2 – بسبب غياب المنظمات الحكومية التي يجب أن تفرزها الثورة كبديل عملي على الأرض وجدت منظمات المجتمع المدني الساحة أمامها متاحة للادعاء بأنها هي المؤسسات الحكومية، فأصبحت بعض منظمات المجتمع المدني المختصة بالعمل التعليمي أو الطبي تدعي أنها هي المؤسسات المسؤولة عن هذا الاختصاص في الدولة الجديدة.
3 – شيوع ظاهرة الارتهان إلى المال المقدم من الجهات الداعمة، فبعض المنظمات تغير العديد من أهدافها ونطاق عملها في سبيل استحصال أموال؛ فترى منظمة مختصة بالأعمال الإغاثية من خلال تقديم السلة الإغاثية تقحم نفسها بالعمل الطبي وتنشئ مركزاً صحياً فقط بسبب توفر مورد مالي لهذا البند، مع أنها تكون غير مؤهلة للقيام بهذا النوع من النشاطات.
4 – انتشار حمى الحفاظ على الذات والتنافس في التضخم واستجلاب الأموال، ولو كان ذلك فيه مضار للمجتمع ضمن الغوطة الشرقية، ويظهر ذلك بشكل جلي في الفترات التي يزداد فيها الدعم المخصص؛ مثل مشروع المطبخ الخيري في رمضان حيث انتشرت في رمضان الماضي عشرات المطابخ الخيرية في الغوطة، ووصل الناس إلى حالة تخمة من الإطعام حتى أصبحت ترى الطعام مرمياً في القمامة، مع أن المواطن في الغوطة كان يفضل أن تقدم له وجبة من المواد غير المطبوخة، والتي يمكن الاحتفاظ بها على مدى طويل بدل المواد الجاهزة، ولكي تستطيع هذه الجمعيات تغطية هذه المشاريع قامت بسحب المواد الغذائية من الأسواق وبأسعار خيالية، وبعد انتهاء شهر رمضان توقفت هذه الجمعيات عن تقديم هذه الخدمة، فوجد المواطن نفسه في العراء لا يوجد مواد غذائية في الأسواق ولا يوجد مطابخ تقدم له الطعام. وجميع الجمعيات تدرك ولو بشكل متفاوت أن عملها في رمضان كان فيه ضرر على الغوطة الشرقية، ولكن المحدد الرئيسي لعملها لم يكن تغطية حاجات المجتمع، بل كان تغطية رغبات الجهة الداعمة!
5 – غياب الاستقلالية والحيادية لدى العديد من منظمات المجتمع المدني، وارتباط العديد منها بمشاريع سياسية فصائلية، ومن خلال الخدمات التي تقدمها هذه المنظمات تحاول الترويج لهذا الفصيل أو ذلك التيار.
6 – ضعف المؤسساتية بشكل عام لدى هذه المنظمات سواء لجهة التنظيم والهيكل الإداري أو لجهة ترسيخ مبادئ الشفافية والمساءلة والعدالة.
7 – ضعف المنظمات التي تختص بالتوعية والنشاطات المجتمعية الأكثر ديمومة، والتي تعمل على تنمية الموارد البشرية وتوعية المواطنين بحقوقهم، فمثلاً غابت عن الغوطة منظمات تهتم بفئات معينة كمنظمات عمل للمرأة والطفل وما إلى ذلك.
8 – غياب المنظمات الحقوقية أو التي تهدف إلى احترام حقوق الإنسان، الأنسب القول : ولعل السبب الرئيسي الذي منع العديد من الناشطين من القيام بذلك هو تخوفهم من بعض الفصائل ذات التوجهات المعارضة لهذه القضايا.
إن النقاط السابقة لا تهدف إلى رسم صورة سلبية عن واقع منظمات العمل المدني في الغوطة الشرقية، فلا يوجد أحد يختلف على أن منظمات العمل المدني في المناطق المحررة قفزت قفزة كبيرة، وأصبح لها أثراً واضحاً على المجتمعات المحلية، ولكن تسليط الضوء على هذه النقاط السلبية يستهدف أساساً تحديد السلبيات للعمل على تجاوزها، فجميعنا يدرك أهمية تفعيل دور منظمات المجتمع المدني كوسيلة للوصول إلى مجتمع أكثر تقدماً وحضارية ويحمل فكر قبول الآخر والمبادرة والشراكة المجتمعية بما يدفع للوصول إلى الدولة الحديثة العصرية.
كاتب وصحفي من داخل الغوطة الشرقية – ريف دمشق