قيل في إحدى تعريفات المجتمع المدني بأّنه يشير إلى “مجموع المبادرات والمجموعات الناشطة خارج إطار الحكومة”، وبطيبعة الحال تعتبر منظمات المجتمع المدني واحدة من هذه المجموعات أو الفعاليات التي تُبنى على شرط مهم يتمثل في تعبيره عن تطلعات أو اهتمامات مجموعات أو مكونات اجتماعية في بلد ما، بغض النظر عن الظروف التي يمر به ذلك البلد. وفي أحيان كثيرة قد تقوم تلك المنظمات بالمشاركة في تحديد مسار سياسات عامّة سواء على المستوى الوطني والمحلي ، أو على المستوى الإقليمي ، وحتى على المستوى الدولي؛ وذلك عن طريق أدوات عديدة تلجأ إليها تلك المنظمات ، سواء كانت حملات مناصرة ودعم ، أو حشد رأي عام وتسخير موارد من أجل أهداف محددة.
من الصعب النظر في طبيعة وبدايات فاعلية المجتمع المدني السوري بصورته العامة ، أو من خلال المنظمات والجمعيات والمبادرات التي أفرزها بعد آذار 2011 ، دون الأخذ بعين الاعتبار البيئة القمعية التي كانت تسود الساحة السورية العامّة قبل ذلك التاريخ، أو القمع الذي رافق الانتفاضة الشعبية من قبل الأجهزة الأمنية بعد هذا التاريخ، والتي تحولت فيما بعد إلى حرب شاملة أدّت إلى خلق ظروف جديدة تتميز بصعوبة أكبر في العمل المنظم المستقل أو المحايد أو الموضوعي. فأصبحنا في مواجهة ظرفين مهمّين وأساسيين كان لهما الأثر الأكبر في رسم ملامح معظم منظمات المجتمع المدني السورية، أولهما قلّة الخبرة والممارسة بعد سنين طويلة من حكم الدولة السورية “الحديثة”، التي كانت محكومة بعقلية الحزب الواحد، حزب البعث العربي الاشتراكي. وثانيهما – وهوالأكثر قساوة – أن البدء بممارسة العمل المدني كان ضمن ظروف أقرب إلى الاستثنائية، وهي ظروف الحرب والنزاع في سوريا ، والتي أدت إلى كارثة إنسانية تعتبر الأسوأ منذ عقود.
لكن وبالرغم من ذلك كان بالإمكان، واستناداً إلى حجم التمويل المتدفق على المنظمات السورية، أن يكون المجتمع المدني أكثر قوةً ومتانة وفعالية مما هو عليه، وأكثر إرتقاءً بعمله ، وأكثر تنفيذاً وتطبيقاً للأهداف والرؤى والخطط التي نشأ من أجلها.
بقليل من التجاوز يمكن تشبيه ظهور معظم المنظمات السورية التي بدأت في العام 2011 بكونها بدأت على شاكلة مبادرات فردية أو من عدّة أفراد (التنسيقيات مثالاً) نتيجة حاجة مجتمعية فرضتها الاحتجاجات والمظاهرات اليومية . ومن نافلِ القول أن مقتضيات العمل الثوري برمتها وتحديداً في شقّه الأمني ، فرض على مؤسسي تلك المبادرات والمجموعات الاعتماد على الدائرة المقربة منهم لغايات أمنية (الأخ والصديق والمعارف وغيرهم)، فلم يتم الأخذ بعين الاعتبار -على سبيل المثال- الكفاءة أو المقدرة أو حتى التفرّغ للعمل في جوّ مؤسساتي لدى معظم المبادرات، وفي أحايين كثيرة تمّ الاكتفاء بالاعتماد على مبدأ الولاء كسبيل وحيد في سبيل الحفاظ على مكتسبات على مستويات مختلفة، سواء الشخصية منها أو “المنظماتية الضيّقة”. وسرعان ما بدأت سلبيات هذا الجانب بالظهور بعد بضعة أشهر من العمل اليومي والمضني في سوريا وتحت الشروط الاستثنائية المشار إليها آنفاً.
وحتى أواخر العام 2011 كانت معظم المبادرات والمجموعات الناشئة تنشط في الداخل السوري بشكل أساسي، إلاّ أنّ الموجة الأولى من المواطنين السوريين الذين اضطروا للنزوح من منازلهم واللجوء إلى دول مجاورة، إضافة إلى عدد لا بأس به من النشطاء، سمح شيئاً فشيئاً لمعظم المبادرات بتغيير كبير في بعض التكتيكات، فمثلاً بدؤوا بتكليف أناس للحديث باسمهم في الخارج، والاختلاط مع المنظمات الدولية الأخرى والحكومات المختلفة التي أعلنت دعمها للحراك في سوريا، ويبدو أنّها كانت إحدى مراحل بدء طلب التمويل المنظّم من مصادر مختلفة، حيث بزغت تزامناً مع هذا المنعطف تحدّيات جديدة متعلقة بشروط الاستدامة والرؤية الواضحة والأهداف التي تتعلق بسبب نشوء معظم المبادرات أو المنظمات. وأيضاً كان لهذا الأمر آثار إيجابية أخرى عديدة تمثلت في جزء كبيرة منها بالإحتكاك مع أناس وفعاليات من دول أخرى وتمّ الإطلاع على تجارب عديدة، حيث تلقفت العديد من المنظمات هذه الفرص من أجل تطوير نفسها سواء على صعيد الهيكلية والعمل أو على صعيد الرؤية والاستدامة، على عكس منظمات أخرى كثيرة ترسخت فيها سلطة فرد أو بعض أفراد متنفذين (والأمثلة هنا بالعشرات)، وبدأت (الانشقاقات) فيها بشكل عامودي ، متناسين الهدف الأول والأسمى من نشأتها .
في معرض الحديث عن المعوقات التي تواجهها منظمات المجتمع المدني السورية عشية دخول الانتفاضة الشعبية عامها الخامس، لا بد من الاعتراف أنّ قيوداً ثقيلة جداً تثقل كاهل العشرات من المنظمات وربما المئات، وذلك مقارنة مع حجم العمل والواجبات أو الدور المنوط بها في هذه الفترة، وبشكل أخصّ بعد مغادرة أكثر من نصف السوريين لبلادهم، وتدمير البنى التحتية في الدولة بشكل شبه كامل، وانتشار نقاط الاشتباك والقتال بشكل غير قابل للحصر ما بين النظام ومجموعات المعارضة المسلّحة، وتنظميات مختلفة الانتماء والأهداف، والتي بلغت بحسب إحصائية لأحد لجان التحقيق أكثر من 1400مجموعة منذ بدء النزاع.. اندثر بعضها ، واندمج بعضها الآخر وفق اعتبارات عديدة لا يتسع الوقت للحديث عنها.
ولكن وبرغم تلك المعوقات أو الظروف الموضوعية التي وقفت حائلا دون تشكيل منظمات مدنية قويّة، يمكن القول إن العوامل الذاتية لا تقل دوراً في إضعاف المنظمات السورية؛ فما الذي يمنع على سبيل المثال أن تتمتع جميع المنظمات السورية المدنية بأهداف واضحة وتتخصّص في مواضيع محددة ، وما الذي يمنعها من كتابة تخطيطات استراتيجية لتنفيذ حقيقي لرؤاها وأهدافها، وما الذي يمنع من خضوعها لأنظمة داخلية واضحة وتوزّع واضح في المهام ومراقبة للعمل اليومي أوالاستعانة بخبرات في هذا المجال؟! مع العلم أن آلاف الدورات التدريبية عقدت خلال السنوات الماضية لآلاف السوريين وخاصة في دول الجوار. وقد يقول قائل ههنا مرة أخرى إن ظروفاً استثنائية أخرى أضيفت على واقع هذه المنظمات، فمن عدم الاستقرار وصعوبة التسجيل، إلى صعوبات جديدة برزت مؤخراً منها عمليات التحويل المالية للسوريين، والتي لعبت وما زالت تلعب دوراً في ضعف المنظمات السورية.
إلاّ أن المراقب الموضوعي لعمل الكثير من المنظمات عن كثب، سوف يدرك فداحة واقع العشرات من المنظمات السورية متمثلا في حالات الهدر والفساد المالي والإداري التي تعصف بها ، وفي حالات الركود والعقم وعدم القدرة على تطوير حقيقي في عملها وآلياتها.. لتتحول تلك المنظمات من وسائل لتحقيق (أهداف نبيلة) إلى غايات تُقصد لذاتها.. فتجد عشرات المنظمات التي تعمل في منطقة واحدة على الموضوع ذاته، لتصبح وسائل ومنابر أشبه بالأحزاب السياسية في فترة ما قبل الثورة ولتتحول إلى عبء يجب التخلص منه أو تطويره عاجلاً أم آجلاً.
المتحدث الإعلامي باسم مركز توثيق الانتهاكات في سوريا