نحن أبناء ثقافة تتعامل مع المفاهيم والمصطلحات والأحداث من خلال الإسمية أو الشعاراتية، والشائعة، والرعب أو هوس الاضطهاد وروح الهزيمة، وهذا يشوه صورة الأشياء والأفكار في أذهاننا ويعيق تواصلنا مع العالم.
ولذلك معظم المفاهيم المعاصرة إشكالية مشوشة، ومفهوم منظمات المجتمع المدني له من ذلك نصيب كبير، ولذلك سنقاربه، من ناحيتين، ناحية المفهوم أو المبنى، وناحية المضمون أو المعنى.
1 -التعريف من خلال المصطلحات:
المنظمة مجموعة من الأفراد لهم هدف معين، يستخدمون طريقاً أو أكثر للوصول إليه. فمثلاً هناك منظمات إنسانية، منظمات بيئية، منظمات عمالية، الخ. نحن في سوريا لا نعرف إلا منظمتي الطلائع والشبيبة!!. المنظمة شخصية اعتبارية مستقلة عن مكونيها، ويديرها مجلس منتخب. وتنقسم المنظمات إلى نوعين حكومية وغير حكومية بالنظر إلى الأعضاء المكونين للمنظمة.
المجتمع: وهو مجموعة من الأفراد يعيشون في موقع معين تربط بينهم شبكة علاقات ثقافية واجتماعية، يسعى كل منهم عبرها لتحقيق مصالحه واحتياجاته. ويتشارك مع الآخرين همومهم واهتماماتهم بما يساهم في تطوير ثقافة ووعي مشترك يطبع المجتمع وأفراده بصفات مشتركة تشكل شخصية هذا المجتمع وهويته.
المجتمع (المدني): أو مجتمع المدينة، يجمع العرب الباحثون في مفهوم المجتمع المدني على أصوله الغربية، وهذا الإجماع سببه غياب البحث وغلبة النقل ووحدة المنقول عنه. بينما تظهر مراجعة متبصرة للتاريخ القريب للحضارة الإسلامية، أن مصطلح مدينة ومدني ولد في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية، بعيد هجرة النبي وتأسيس دولته الحديثة في المدينة، فدولة المدينة أنشئت في حاضرة تسمى يثرب، النبي سماها المدينة، ذلك أنه أسس في هذه الحاضرة مدينة حديثة بدستور مكتوب قائم على التعدد والاختلاف والتعايش وقد كانت هذه المفاهيم بكرا في ذلك التاريخ؛ فالمجتمع المدني بحسب تجربة المدينة: هو مجتمع قائم على الحرية والعدالة والتعدد وقبول الاختلاف وإدارته، والمساواة بين أفراده بغض النظر عن انتماءاتهم العقائدية والفكرية. مجتمع محكوم بالإقناع والقانون، فهو تعبير طوعي عن إرادة الناس الحرة.
فدولة المدينة أسست ببيعتين، ووضعت أسس الحكم بعقد مكتوب عملي هو دستور المدينة الذي وصفه أحدهم، بأنه أول دستور مدني في التاريخ، وتجد أحدنا من غير فهم ولا بصيرة، يتحدث عن جاك روسو والعقد الاجتماعي (النظري) بين الأمة والحاكم!
وحيث أننا لا نستطيع أن نعرف قيمة ما عندنا حتى يتحدث عنه الغربيون، (فابن خلدون القامة الفارعة في علم الاجتماع لم نتعرف عليه إلا عندما تحدث الغربيون عن عظمة انجازه)، لم يخطر في بالنا معنى مدينة وعلاقة ذلك بالمجتمع المدني، أو المديني.
المدينة أو المدنية كانت لحظة فارقة بين حاضرة محكومة بالقانون، تمارس التعدد وتعيش التسامح مع المختلف، وتوزع الحقوق والواجبات بغض النظر عن الانتماء الديني، وبين فضاء فوضوي تحكمه شريعة القوة وقانون الغاب. إننا نؤكد اليوم من خلال معرفتنا بالتاريخ الإنساني، أن الحضارة الإسلامية دُشنت بمجتمع مدني، بينما كان المجتمع المدني في الحضارات الأخرى ثمرة معاناة وآلام مريرة، فالمجتمع المدني هو المجتمع الذي يكون فيه الجمهور صاحب الكلمة في كل ما يتعلق بالأمة ومصائرها، وهذا كان الملمح الأهم في دولة المدينة التي كانت محكومة بالمجتمع المدني، الذي كان كل فرد من أفراده معنيُّ بأمر هذه الأمة، وكانت لحظة تكليف الحاكم هي لحظة الحقيقة في هذا السياق كما عبر عنها الصّدّيق والفاروق.
منظمات المجتمع المدني:
شبكة من المنظمات التطوعية المستقلة التي تملأ المجال العام بين الأسرة والدولة، وتعمل على تحقيق المصالح المادية والمعنوية لأفرادها، والدفاع عن هذه المصالح في إطار الالتزام بقيم ومعايير الاحترام والتراضي والتسامح الفكري والسياسي، والقبول بالتعددية والاختلاف، والإدارة السلمية للصراعات والاختلافات.
2 -التعريف من خلال الوظيفة:
فبحسب الوظيفة التي تقوم بها منظمات المجتمع المدني من خلال التعريف، نستطيع أن نقول: إن منظمات المجتمع المدني هي فرق مجتمعية متطوعة تقوم بحراسة الفضاء العام من استبداد ذوي السلطان وأصحاب النفوذ.. إنها صوت الجمهور في مواجهة نفوذ السلطة، إنها حالة من الثورة الهادئة الدائمة؛ فهي منظمات تطوعية، مستقلة، غير إرثية، وظيفتها رقابية، رصدية، اقتراحية، اجتماعية، لا تطمح للسلطة، وبذلك تخرج الأحزاب من عدادها، لأنها معنية بالسلطة.
وبحسب معرفتنا بتاريخ المجتمع الإسلامي فإن الفضاء العام فيه كان محروساً بالفريضة السادسة، فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، التي صنفها الفقهاء في فروض الكفاية، واعتبروها فريضة اجتماعية مجتمعية، وقد كان المجتمع النبوي مجتمعاً مدنياً حياً، يقوم بهذه الوظيفة بكليته، وكان الفضاء العام متاحاً، لا يحول دونه حائل ولا يتهيبه متهيب. فمعركة بدر حدد موقعها رجل من المسلمين، ومعركة أحد حدد مكانها الشباب المتحمس، وصلح غطفان يوم الخندق كان أصحاب الفصل فيه هم أهل المدينة. بينما معاهدات السلام مع “إسرائيل” لم تعرض للأمة بعد أربعين عاماً، وعقود استئجار الحكام الذي فضحتهم ثورات الربيع العربي لا يعرف أحد عنها شيئاً. والشواهد أكثر من أن تحصى، وبقي الأمر على هذه الحال، حتى استحالت الخلافة الراشدة ملكاً عضوداً، استولى فيه المستبدون على الفضاء العام، وحجروه على الأمة، وصارت الأمة دهماء لا تستشار، ولا تستأمر، بل وسِّد الأمر إلى من تجرأ على الأمة وقال: والله لا يأمرني أحد بعد مقامي هذا بتقوى الله إلا ضربت عنقه. وفعلاً طارت أعناق كثيرة بمبررات مختلفة، وحيل بين الأمة وبين المشاركة في إدارة شؤونها، حتى وصلت الأمة إلى ما وصلت إليه، وتولى السلطة فيها خلفاء الغرب الملوك الآلهة، ، فهم لا يسألون عما يفعلون، لا مبدل لأمرهم، ولا معقب لكلمتهم، ولا راد لحكمهم، وبقينا في هبوط والعالم في صعود، حتى اكتشف الأوربيون في صراعهم مع الطغاة قيمة المجتمع المدني فنظموا حركته، وقننوا وجوده، وجعلوه من ثوابت النظام السياسي عندهم، ثم كانت عودة المجتمع المدني ومنظماته سبباً في خلاص الأوربيين الشرقيين من طغيان الشيوعية، الذي دشنته حركة تضامن، فنبتت نابتة المجتمع المدني في بلادنا بسحر قوته في مواجهة الطغاة، وأحس هؤلاء بخطورته، فلفقوا له كل تهمة، واستعملوا في وجهه كل سلاح، فادعوا أنه صنيعة المستعمر ودسيسته، ورأس حربته، وأنه حرب على الدين، ولما لم يجد ذلك، حظروا حركته، وسجنوا رموزه، وأمكنهم ذلك لأن الحركة كانت حركة نخب محدودة، وحسب الطغاة أن الأمر دان لهم، حتى دقت ساعة الحقيقة فقامت الأمة بقضها وقضيضها، من مشرقها إلى مغربها وإن بتفاوت، وتمكنت الثورات من إزاحة الطغاة، وساهمت قوة المجتمع المدني كثيراً في سياق التطورات في كل ثورة، فسارع بعض الطغاة لتقديم إصلاحات يحاصر بها عودة المجتمع المدني أو عودة الروح للأمة، وجرفت قوى المجتمع آخرين، واختلفت سياقات الثورات بحسب قوة المجتمع المدني فيها وطبيعته، ففي المجتمعات التي دمر الطغاة فيها المجتمع المدني تحولت الثورات إلى حروب مدمرة كما في سوريا حيث لم نعرف سوى منظمتي الطلائع والشبيبة! وفي المجتمعات التي فيها بقية مجتمع مدني اتخذت الأمور مساراً أقل تدميراً.
الخاتمة: إن كل ما قيل يتلخص في أمرين:
1 – إن المجتمع الإسلامي كما تثبته وقائع التاريخ، هو مجتمع مدني قبل أن يغتاله الطغاة، وإن النظام الإسلامي يحافظ على مدنية المجتمع، من خلال فريضة المشاركة في الشأن العام. لكن الطغاة زوروا هذه الفريضة، فحولوها لأداة في خدمتهم، بدل أن تكون في مواجهتهم، وانطلى الأمر على كثيرين، فصار الآمر بالمعروف يتكيف، مع استباحة الأمة، وخرم التوحيد من الملوك الآلهة، ويلاحق فتاة لزيها أو شاباً حليقاً.. وهذا غاية التزوير وقمة الضياع.
2 – لقد أعادت ثورات الربيع العربي الحياة للمجتمع المدني، والآن نملك الفرصة لأن نجعل عودته نهائية ودائمة، وذلك من خلال ما يلي:
تحرير معنى المجتمع المدني من تشويه أنظمة الجبر والملك العضود، وإعادة الاعتبار لمجتمع المدينة، وإحياء معانيه ومضامينه.
تنظيم قوى المجتمع المدني في منظمات تعرف دورها وتقوم بواجبها في خدمة الأمة وصيانة المجتمع، ولا عاصم من عودة أنظمة الطغيان من غير مجتمع مدني حي قوي يعبر عن ذاته من خلال منظمات شرعية تستطيع أن تجسد قوة الجمهور بصورة ثابتة ودائمة.
تحرير الفضاء الإسلامي، بالقطع بين مجتمع المدينة مجتمع الأمة، ومجتمعات الملك العضود التالية، حيث حيل بين الأمة وممارسة دورها، والتخلص من كل تزويرات فقهاء السلطان، وسدنة الطغيان.
أعادة الروح لفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتكون وظيفة الجمهور في مواجهة جور الطاغية، وليس أداة الطاغية لقمع الجمهور، كما هي ممارسة في بعض كاركاتيرات الدول الإسلامية.