“كنت أعتبر نفسي فلسطينية إذ كان تواصلي لسنوات مع أصدقائي الفلسطينيين الذين أشترك وإياهم في وجع الاحتلال، لكني شعرت بسوريتي حين درست الفنون وبالتحديد النحت في دمشق، هذا المكان هو مكاني وانفصلت عنه قسراً بفعل احتلال الجولان”.
بهذه الكلمات قدمت الفنانة التشكيلية رندا مداح لمعرضها (ربطة شعر) الذي يستضيفه “جاليري وَن” في مدينة رام الله بفلسطين المحتلة من الثالث من شهر أيلول/ سبتمبر الجاري ويستمر حتى التاسع والعشرين منه.
تهدي رندا معرضها هذا لصديقها الشهيد عماد أبو صالح ولكل أبناء الوطن الشهداء والمعتقلين، كما تقول. مختصرة معرضها بجملتين في كتيب حول المعرض: “على مساحة موازية يحدث كل هذا. أرض مشطورة وسماء لا تكثرت والكثير من الحكايا بينهما”. وتضيف “حكايتي هي تمرير الذاكرة عن إرث موحش لم يدركه النسيان بعد”.
من مجدل شمس إلى رام الله ..
تؤكد مداح أن أعمالها المعروضة “تنطلق من مفهوم المكان الذي نشأت فيه”. مبينة أن “المكان الذي أتيت منه هو الجولان السوري المحتل من مجدل شمس القرية الحدودية وبالتالي نحن مفصولون بشكل قسري منذ العام 1967 عن سوريا”. ولعل ما سبق هو ما دعا الكاتب والناقد السوري صبحي حديدي إلى التأكيد على مقولة الكاتب البريطاني المعروف “جون برجر”، الذي يعيش في جنوب فرنسا، عن رندا مداح: “كأنك تحملين حصى هضبة الجولان في يسراك، وفي يمناك ترسمين أحشاءها”.
يصف “برجر” أعمال مداح الفنية بأنها “ساحرة”. ويقول في كلمة في كتيب حول المعرض “أعود إلى فلسطين وأتأمل الأرض التي أمشي عليها.. وأفكر في قرارة نفسي أنها كلها تشكل شظايا ليست من الأرض بل من الوطن وهذا ما تعكسه الأشكال التي تخلقين”.
وترى مداح أن دراستها للفن في سوريا خلق لديها “حالة الشعور بالتعلق بين مكانين فأنت تنتمي إلى مكان لا تستطيع أن تكون فاعلاً فيه أو جزءاً من مشاكله وتفاصيله”.
الوزير بسيسو: كأننا أمام مفردات الكبرياء الصاخب
تقدم مداح لجمهور رام الله في (ربطة شعر) نتاج سنة من العمل في نحت ما يزيد عن خمسين عملاً من البرونز والطين والجبس.
وتبدو الأعمال البرونزية تجسيداً بشكل أو بآخر لعرائس مسرح الدمى ذات الأشكال الشريرة بوضعيات مختلفة يظهر الشعر في كثير منها مستخدماً لتعليقها أو ربطها وهي تجسد امرأة أو طفلاً أو رجلاً. كما تظهر في أعمالها المنحوتة في الجبس العديد من أشكال الطيور المعلقة إضافة إلى دمى العرائس.
بعد زيارته للمعرض قال وزير الثقافة الفلسطيني إيهاب بسيسو: “كأنك أمام خرائط الألم، المتجددة كنص، كرواية ما زالت تبحث عن فكاك من سطوة الموت اليومي.. كأنك أمام مرايا الوجود العبثي في مهب الصراخ وجرائم القتل التي استحوذت على جميع الألوان وجميع الكنايات التي من شأنها أن تدلك على ملامحك.. كأنك أمام مفردات الكبرياء الصاخب، البارزة من جدران الصمت في تنافر موجع، لا تستجدي شفقة أو حزناً بقدر ما تعيد بناء الوقت من صلصال خفي لحياة بين تكوينات التشكيل الفني”. يضيف بسيسو: “تلك هي بعض الرسائل التي يمكن قراءتها في معرض (ربطة شعر) للفنانة التشكيلية رندا مداح، ابنة الجولان السوري المحتل، القادمة من مجدل شمس الى رام الله، كي تطل بصلصال الحياة المعمد بالألم والأمل وبلاغة البقاء”.
مخلوقات مداح قطعة من الجحيم ..
تشير الفنانة السورية إلى أن طبيعة عملها تغيرت من الرسم بقلم الرصاص على الورق أو رسم الاسكتشات إلى النحت متأثرة بالواقع الذي تعيشه وما يشهده بلدها سوريا.
وتقول إنها ابتعدت عن الرسم بالرصاص واتجهت للنحت لأنها رأت أنه أكثر تعبيراً عن شعورها بالإحباط إذ ترى “الواقع يتغير من سيء إلى أسوأ”. متابعة: “قبل أن أبدأ العمل أنطلق من فكرة عامة وعندما أبدأ العمل لا أفكر. العمل يكون نتيجة الإحساس”.
وتبين مداح أنها أنجزت جميع الأعمال الفنية المعروضة بالطين ثم اختارت تنفيذ عدد منها بالبرونز وأخرى بالجبس. معللة ذلك بأن “التعامل مع الطين أسهل إذ يمكن تشكيلها باليدين كيفما شاء الفنان بينما تحتاج أعمال البرونز والجبس لقوالب خاصة”.
وحول مشغولاتها المعروضة اليوم في “جاليري وَن” تقول: “كل حدا فينا عنده أشياء بتشده وتمنعه يحقق أهدافه منها الواقع المفروض عليه والتقاليد والوضع اللي نعيشه. بتشده بتمنعه يتقدم أو يغير حياته وتفاصيلها. الشد والتعلق بين مكانين يشكل حالة ضياع”.
ويقدم الشاعر السوري الكردي المقيم في فرنسا جولان حاجي أعمال رندا مداح بقوله “ليست هذه المخلوقات هاربة من الجحيم، إنها قطعة منها، بعضٌ من وجودها”.
ويضيف: “رندا تظهر لنا ما لا نراه.. من نار لا ترى إلى نيران تجوب العالم حولنا، يلفح اللهب الجميع ويساوي بينهم أمام الرعب، فيسفع ملامحهم ويصهر أشلاءهم ليوحّدهم الذوبان، أو يفرّقهم ويشتّت بالتهديد شملهم. هذه خصوبة الموت وتوالد النهايات من بعضها البعض”.
مجلة مستقلة، تعنى بشؤون الثورة السورية، نصف شهرية، تطبع وتوزع داخل سوريا وفي عدد من مخيمات اللجوء والتجمعات السورية في الخارج