قاد صعود التيار السلفي في الثورة السورية الى طرح أسئلة حول قدرة هذا التيار على تقديم اجوبة وحلول للمشكلات التي تواجه الشعب السوري في الوقت الراهن، ومدى نجاحه في التعاطي معها وإعطاء أجوبة سياسية واقتصادية واجتماعية بحيث تكون سوريا دولة مستقرة يعيش مواطنوها بأمان ومساواة في ظل سيادة القانون والحريات العامة والخاصة.
واقع الحال ان ادبيات التيار السلفي تنطوي على توجهات فكرية وسياسية لا تنسجم مع العصر، فقراءته للنص الديني قائمة على التمسك بظاهر النص وتجاهل المقاصد العميقة والتي تجعله منفتحاً على الزمان والمكان عبر ترك مساحة واسعة في المجالات غير العقدية لتحرك البشر واجتهاداتهم والتفاعل مع التغيرات التي تطرأ على المجتمع الإنساني والإسلامي، هذا بالإضافة الى رفضه للقراءات والاجتهادات الأخرى، ما يضعه في مواجهة فقهية مع أصحاب هذه القراءات ويحول دون مدّ جسور التفاهم والتعاون والتعاضد والتعايش تحت سقف مجتمع واحد، والانزلاق إلى الصدام معها.
وقد قادته قراءته تلك، مع موقفه المبني على تحكيم النص، الى عدم القدرة على وضع تصور يلحظ ما في العالم المعاصر من قضايا ومسائل ومشكلات تؤثر في حياة الإنسان بشكل عام والمسلم بشكل خاص، فالتصور السلفي فقير في مكوناته وغريب عن عالم اليوم نتيجة استغراقه في الماضي والانطلاق من نظرة نكوصية ترى القرون الأولى أفضل القرون والانحدار مع التقدم في الزمان، ولذا دعا الى إقامة دولة الخلافة (دولة أمة المسلمين، دولة فوق وطنية) باعتبارها عودة الى الايام المجيدة. ولم يكتف بالدعوة بل انطلق من اعتبارها فرضاً إسلامياً، ما يجعلها أصلاً من أصول الدين، وهو مخالف لما تواضع عليه المسلمون من أصول (الألوهية، الرسالة، الميعاد)، وليس له سند صلب وواضح من النص الديني (القرآن الكريم)، حيث لم ترد الخلافة في النص لا صراحةً ولا مداورةً، فالتسمية وُلدت عفوياً من وصف طبيعة دور الإمام الذي تلا الرسول (خلفه في موقعه في قيادة المسلمين فهو خليفة، ثم وصف النظام السياسي بالخلافة)، وقد تخلى عنها عمر بن الخطاب إلى “أمير المؤمنين”، لأنه اعتبر نفسه خليفة أبي بكر وليس خليفة الرسول، ورأى أن وصفه سيكون “خليفةَ خليفةِ رسول الله” وأن في ذلك ركاكة وإرباكاً. أما الحديث الشريف “ثم تكون خلافة على منهاج النبوة” الذي يستند إليه السلفيون فإنه لا يتسق مع منطق القرآن الكريم الذي يجعل من الغيب ساحة خاصة بالله عز وجل، وقد مُنع النبي عليه الصلاة والسلام من الخوض فيه. كما أن وقائع التاريخ في العهد “الراشدي” تشير إلى الضد من ذلك، حيث تباين منهاج الخلافة أيام عثمان وعلي عنه أيام أبي بكر وعمر تبايناً كبيراً.
لقد أخطأ دعاة إقامة دولة الخلافة عندما لم يميزوا بين ضرورة الإمامة/الدولة، التي نادت بها كل المذاهب الإسلامية، وطبيعتها وارتباطها بشروط وسمات العصر الذي تقوم فيه، حيث لا يمكن فصل الدولة عن العصر الذي تنشأ فيه. كان التمييز بين ضرورة “الإمامة” وطبيعة “الإمامة” حريّاً بوضع حدّ لهذه الدعوة غير المنطقية والتي لن تقود إلى مكان، لأنها تتناقض مع روح العصر ومع الدولة الحديثة، حيث لم يعد للدولة الإمبراطورية وجود بعد أن قاد التطور السياسي والاجتماعي العالمي إلى نشوء دول قومية وإلغاء “حق الفتح” عام 1919 في عهد عصبة الأمم (كان “حق الفتح” قد ألغي في أوروبا قبل قرون من هذا التاريخ عبر معاهدة وستفاليا 1648، لكنه بقي اتفاقاً أوروبياً)، ما جعل الدولة الإمبراطورية بسماتها المعروفة (عدم ثبات حدود الدولة والشعب والسيادة، لأنها عرضة للتغير الدائم بحسب نتائج الحروب والغزوات) غير شرعية ولا تمتلك فرصاً للنهوض، لأنها ستُواجَه من قبل دول العالم قاطبة، وأمامنا أمثلة معاصرة: الإمبراطورية السوفييتية المنهارة، والأمريكية التي تلقى مقاومة دولية للحد من ممارساتها الإمبراطورية.
واللافت ان التيار السلفي في موقفه من المرأة ودورها في المجتمع، والذي يصفه بالتكميلي، ناقض تصوره للتاريخ حيث جاء منفصلا عن النص المؤسس (القرآن الكريم) ومرتبطا بفقه عصور الانحطاط التي يعتبر دعوته العودة الى السلف ردا عليها، فموقفه من المرأة فيه انتقاص من مكانتها ودورها الذي حدده النص إذ منحها موقعاً أفضل، فهي مساوية للرجل في آدميته، ومكلفة مثله، ودورها تكاملي مع دور الرجل وليس تكميلياً، في ضوء اعتبار الاسلام الأسرة (ذكر وانثى) الوحدة الاساسية للمجتمع، وعدم تحديده سقفاً أو محرمات أمام دورها، وقد كان لافتاً أن القرآن الكريم في روايته لقصة بلقيس ملكة سبأ مع النبي سليمان أنه لم يعكس أي تحفظ حول موقعها في رأس هرم السلطة، ملكة في بلدها، بل نقل صورة إيجابية عن قيادتها لبلدها أنها لا تأخذ قراراً إلا بعد مشاورة مجلس حكماء في المملكة. وأن كل ما يقال عن أدوار وقيود وحدود لدور المرأة في المجتمع هو من وضع فقهاء المسلمين، رأي/ اجتهاد بشر قابل للطعن والتعديل.
كما قادته قراءته الى اشهار سيف التكفير في وجه المختلف دينياً ومذهبياً، والى الانحياز الى الصدام والعنف، في حالة تدفع الى الانقسام والتمزق الاجتماعي والسياسي. ما جعله عاجزاً عن التعايش مع مجتمع تعددي ومفتوح، كما الى القفز فوق حالة المجتمعات الإسلامية المتخلفة علميا وصناعيا، الضعيفة والمنهكة، المحتاجة إلى ما في أيدي الآخرين من علم وتقنية لحل مشكلاتها المعيشية والخدمية والصحية، ودعوته اياها الى الانخراط في اتون صراع مفتوح مع العالم.
كل هذا جعل التيار السلفي غير قادر على التعاطي مع روح العصر وطرح اجوبة عن مشكلات المواطن السوري، وغير قادر على طرح نموذج سياسي، مقنع وجذاب، وحل مشكلات سوريا بعد نظام الاستبداد الزائل، ما لم يغير نظرته وينطلق من فهم الواقع واكتشاف السُنَن والتطلع إلى المستقبل من خلال احتياجات الانسان الذي بُعث الأنبياء لمساعدته على التحرر والعيش في ظروف طيبة، فالدين جاء لخدمة الإنسان وليس العكس.
كاتب وناشط سياسي سوري