مقالات رأي

مقدّمات لنهوض سوريا

الانتقال من نظام التوحّش لآل الأسد إلى نظام سياسي ـ اجتماعي معقول مسألة في غاية التعقيد. ولو بسبب سلّم الأولويات لدى الناس وليس فقط لدى الذين تسلّموا السلطة.

لنعترف للسوريين أنهم قدّموا تضحيات جسيمة لا يُمكن قياسها أو تسميتها في سبيل ترحيل الطاغية عن صدورهم. لقد دفعوا حيوات خيرة نسائهم ورجالهم، دفعوا من أجل ذلك أحلامهم وأملاكهم ومستقبلاتهم، دفعوا من أجل ذلك سنوات من أعمارهم في السجون والمنافي والنزوح والخيام. وعلى مَن لم يجرّب ذلك أن يُحاول تخيّل ذلك، أن يٌقدّر للمظلومين مظلوميتهم.

سورية تعيش هوّة سحيقة في تاريخها. هوّة من الهمجية والهدم والنزف والطغيان والسجون والتمزيق والطوأفة وضرب فئة بأخرى ـ فكيف يتمّ ردم الهوّة قبل أن تبتلع جيلًا أو جيليْن آخرين من السوريات والسوريين.

هذا هو السؤال المركزي الذي لا نجده في عدسة محطات التلفزة، ومعظمها قائم على التفاهة وعلى الخبر بوصفه ترفيهًا رخيصًا وكسبًا للريتينج. فلا يهم إذا صافح الشرع وزيرة الخارجية الألمانية الداعمة مع بلادها لجرائم الإبادة الإسرائيليّة، ولا يهمّ التصريح الذي أطلقه هذا أو ذاك كردّ فعل على نصف قرن من الإقصاء ونزع الشرعية والإنسانية ـ هذه مسائل ثانوية تمامًا لأن الحياة في سورية هي ما يحصل على الأرض وليس ما يُقال على الهواء. هي مليون جزئيّة في اليوم الواحد ـ تبدأ من توفّر الخبز والطحين والكهرباء وتنتهي بكيفية استعادة عقارات سيطرت عليها جهات محسوبة على النظام البائد كأجر على خدماتها، وبإمكانية توفّر دواء بعينه لمريض خارج للتوّ من أقبية التعذيب. هو كيف يضمن أي نظام جديد سدّ احتياجات الناس في أبسط تجلّياتها.

لا أرى نهوضًا لسوريّة دون اعتماد بعض فرضيات العمل والتوافق عليها بين مكونات سوريا الدولة والمجتمع:

ـ أولا: هناك في سورية مجتمعات وشعوب وإثنيات وليس فقط مكونات. بمعنى أنها صارت مع الوقت وبفعل سياسات النظام هويات وكيانات تعوّض الناس عن غياب دولة المواطنين والمؤسّسات والعدالة وسلطة القانون. وهي أيضا نتاج عقود من ترك النظام لهذه الجماعات عُرضة للاستغلال من هذه القوة الإقليمية أو تلك. هناك حاجة للتوافق كيف يتمّ تفكيك هذا المبنى كي تستوي الدولة ويصح قولنا “الشعب السوري” أو “الأمّة السوريّة”.

ـ ثانيًا: التوافق والاتفاق على مدة زمنية (خمس سنوات أو أكثر) يُسمح خلالها دستوريًّا بالانتظام لكل أنوع التشكيلات الحزبية والسياسية والمدنية  وعقد المؤتمرات والحلقات الدراسيّة، كبديل لإرث حزب البعث ونظام التوحّش الذي قمع كل شيء غيره. هذا كجزء من التوافق على جملة من الحريّات الكفيلة بأن تُشعر جيلين من السوريين المقهورين بقوة الحديد والنار بأنهم بشر، وأنهم شريكون في بناء الدولة والمستقبل.

ـ ثالثًا: ينبغي إشراك وجهات النظر الفكريّة المتعددة والمختلفة في المجتمع السوري وليس الطوائف والجماعات فقط، على اعتبار أن في سورية وعبر كل مكوناتها وجماعاتها شركاء في الفكرة والرؤيا والحلم ـ وهي حقيقة موضوعيّة واعدة أكثر من غيرها.

ـ رابعًا: فصل الدين عن الدولة في المرحلة الانتقالية وبشكل واعٍ وخلّاق لإشاعة أجواء من الطمأنينة كي لا يُستغلّ الدينيّ لقمع “المدني” كما استغلّ النظام البائد “المدني” لقمع “الديني”. هناك نقطة توازن واعتدال ينبغي الاتفاق عليها بأسرع وقت ممكن. ومسؤولية القوى المدنية هنا لا تقلّ عن مسؤوليّة الذين يتولّون قيادة الدفّة الآن.

ـ خامسًا: الوفاق قبل الدمقراطيّة. وهو يعني السعي إلى إرساء وفاق واتفاق لإدارة البلاد قبل الذهاب إلى انتخابات ستكون في هذه المرحلة مصيدة. أو أنها ستكون أداة في أيدي الكُثرة السنّيّة في القبض على مقاليد الدولة والمجتمع تحت غطاء الانتخابات ـ ممارسة مقيتة جسّدت أبشع صور الحكم البائد. هناك إغراء في الأوساط السنّيّة للذهاب في هذا المسار باسم المظلومية التاريخية للسنّة.

ـ سادسًا: التوافق على أن الديمقراطية أو المجتمع المعقول ليس سلسلة من الإجراءات الشكليّة التي يتمّ التباهي بحصولها ـ بل هي تلك الآليات والمنظومات التي تعطي للحريات معنى عمليًا يعيشه الناس يوميًّا وتستفيد منه الدولة. وهي تلك الكوابح التي ينبغي أن تترسّخ كجبل قاسيون لمنع العودة إلى أي شكل من أشكال الاستبداد والقهر واستقواء فئة على أخرى.

ـ سابعًا: الاعتماد على ما في البلد وخارجه من مهارات وكفاءات في كل مجالات الحياة لا سيّما الإدارة الاقتصادية والسياسيّة والمؤسسيّة. سورية ولّادة، وفي شعبها حيويّة وكل ما تطلّبه مسيرة النهوض من جديد.

ـ ثامنًا: سوريا الحقيقة لا الكذبة تبدأ من هنا.

Click to comment

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

To Top