حرية شخصية أم وسيلة إضافية للوصاية على النساء؟
تبرد الأحداث والمآسي وتندمل الجراح الكبرى على الساحات الافتراضية للسوريين، فيما يعود موضوع الحجاب ولباس المرأة إلى الصدارة ساخناً كل مرة.
ورغم البداهة التي تقتضي أن يكون الأمر حرية اختيار شخصية، إلا أنه يعود ليثبت نفسه كمادة للحوار العام، وكأداة للسيطرة والوصاية، أو في حالات كثيرة كذريعة للتحرش ولانتهاك كرامة النساء اللواتي اخترن إظهار ملامحهن للآخر بمحض إرادتهن.
ولا يندر أن تُشن الحملات الفضائحية السياسية التي تستخدم سلاح “عورة المرأة” ضدّ سياسيات أو ناشطات بهدف الإسقاط، ويتم هذا الأمر غالباً على شكل مهرجانات عامة تقام على صفحات معارضين ومثقفين يدّعون التحرر والعلمانية في دعوة مفتوحة لعموم الجمهور للمشاركة في الطعن والإهانة والإسفاف بحق المستهدفات، وذلك دون أدنى حد من احترام إنسانيتهن، ولا أدنى محاولة لنقاش أو نقد أفكارهن وطروحاتهن.
وبالطبع لا يقتصر الأمر على الساحات الافتراضية، فحياة النساء في المناطق السورية “المحررة” باتت تخضع في كل تفصيلاتها لقيود التطرف، ومن المرجح أن الحجاب بما يستتبعه من قيود قد أصبح هو القاعدة في حياة النساء السوريات في تلك المناطق.
ولقد شهدنا منذ سنوات اختطاف آخر امرأتين سافرتين في الغوطة الشرقية على يد من يفترض أن يحميهن من بطش النظام، ولم يشفع لهما عند خاطفيهما كل تاريخهما وتضحياتهما في مقاومة النظام وقيادة جانب هام من الثورة السلمية السورية، ونعني هنا المغيبتين قسرياً “رزان زيتونة” و”سميرة الخليل”. ولا يفوتني هنا أن أذكّر بحرق المئات من نسخ مجلتنا “طلعنا عالحرية” على حواجز الفصائل المتطرفة في الشمال بحجة صور “المتبرجات”: رزان وسميرة!
لكن وقبل القفز إلى التعميمات والأحكام والنتائج، قمنا بطرح السؤال على عدد من الكتاب والصحفيين والمهتمين، وكان هناك العديد من الآراء الجديرة بالتفكير والمراجعة، نستعرضها بما تسمح لنا المساحة في هذا التقرير.
كان سؤالنا الأول:
لماذا ارتبط تعميم الحجاب في سوريا بتمدد الثورة السورية، سواء في مظاهرها السلمية أو العسكرية؟
الطبيب والكاتب “عماد العبار” لا يرى أنّ المسلّمة المطروحة في السؤال صحيحة، ويقول: “لا صحّة بتصوري لما يشاع عن ظاهرة “تعميم الحجاب” في سوريا. لا أرى أنّ ظاهرة الحجاب انتشرت بصورة واسعة خلال الثورة السورية. وألفت انتباهكم إلى وجود رأي مقابل في الأوساط المتديّنة يدّعي العكس تماماً، أي يقول بعضهم بوجود ظاهرة “خلع الحجاب”، بل ثمة من يتحدث عن انتشار ظاهرة الإلحاد أيضاً كنتيجة لحدوث تصدع في المجتمع وتضاؤل الرقابة، وتزعزع اليقينيات الدينية والمجتمعية على إثر تصاعد القتل والعنف”..
إذاً، ما الذي حدث؟
“الذي حدث بتصوري هو خروج المحجبات وانخراطهن في العمل الثوري الأول على نطاق واسع جداً، من خلال المشاركة في المظاهرات، ثم اشتراكهن في جميع الأنشطة الملحقة كالإغاثة والتعليم والإعلام” يضيف العبار مؤكداً بحق: “أن المشاركة لم تكن واردة قبل قيام الثورة لوجود معوقات كثيرة، منها السياسي ومنها المجتمعي والديني.. وهذا ما جعلنا ننتبه إلى وجود هذا العدد الكبير من المحجبات في مجتمعنا، وقد كانت غالبيّتهن بعيدات عن العمل في الشأن العام”.
لكن العبار يعود ليقول: “يمكن الحديث عن ظاهرة فرض الحجاب، والنقاب أحياناً، في بعض المناطق التي سيطرت عليها بعض التنظيمات المتشددة، وهنا ترافقت هذه الظاهرة مع ضعف نشاط النساء وقلة انخراطهن في الشأن العام، بسبب الضغط الذي مورس عليهن من قبل تلك التنظيمات.. وهنا المسألة لا تقتصر على الحجاب وحسب، بل ساد جو استبدادي أثر على حياة الرجال والنساء في بعض المناطق”.
في المقابل يعتقد الكاتب ماهر مسعود أن “تعميم الحجاب لم يرتبط بتمدد الثورة بالمعنى الجغرافي، بل بامتدادها بالمعنى الزمني، وتحولاتها نحو العنف المسلّح كرد فعل عفوي وطبيعي على عنف النظام وإجرامه بحق الناس الثائرين” مضيفاً أنه “علينا التمييز بين المظاهرات السلمية أثناء المراحل السلمية، أي في بدايات الثورة الأولى، والمظاهرات السلمية المحمية عسكرياً فيما بعد، أو في المناطق “المحررة” التي تآكل تحريرها على يد الإسلاميين. وفي هذا المقام لابد أن ندرك أن العنف والعنف المضاد لا يولد مظاهر تحرر حقيقية موجبة، لا في مسألة الحجاب ولا في غيرها، وبالتالي كان تعميم الحجاب هو تأقلم اجتماعي من قبل النساء مع سيطرة الإسلاميين وسيطرة الرجال حقيقة على مشهد الثورة، فمعروف أن أكبر ما خسرته الثورة نتيجة العنف المسلح هو مشاركة المرأة الفاعلة في الثورة، إضافة لسيطرة الإسلاميين رويداً رويداً على الثورة، وأنا أتحدث هنا عن سوريا الداخل بشكل أساسي”.
الصحفية والناشطة يارا بدر لا ترى أنّ المد الإسلاموي ارتبط بالثورة، ورغم عدم وجود إحصائيّات أو أرقام دقيقة كما تقول إلا أن مشاهداتها وهي التي كانت تعيش في سوريا، تميل إلى القول إن “فتيات كثيرات خلعن الحجاب عام 2011 مع انطلاقة الثورة السورية، ولا يعني هذا بالضرورة أي ارتباط عضوّي بين الفعلين”. وتتابع بدر: “ما أريد قوله إنّ المد الإسلاموي انتشر في سوريا منذ ما بعد عام 2000, أذكر أنني أنّا الفتاة التي سكنت في منطقة “القدم” الملاصقة لمنطقة “باب مصلى” وكلاهما من المناطق الشعبية لأكثر من ثلاث سنوات وجدت نفسي بعد فترة من مغادرتي للمنطقة تقارب الخمس سنوات أسمع عنها ما يُثير عجبي وخوفي في آنٍ معاً؛ مثل أنّ فتاة ترتدي تنورة لا تستطيع العبور في المنطقة دون أن تسمع كلمات تزعجها، وفجأة بدأت أشعر أنّ منطقة “باب توما” و”باب شرقي” حيّز خاص لا يشبه باقي دمشق! غريب ومرغوب لأنّ فيه “المسيحيون” ومناطق السهر، وفيه الفتاة تستطيع أن ترتدي ما تشاء من ملابس سبور. قبل 2010 حقيقة لم أسمع عن “القبيسيات” على سبيل المثال، ولم أسمع عن تمدّدهنّ بفعل الثورة السورية. بل هنّ انتشرن وظهرن ورُخصّ لهنّ بفعل ممارسات حكوميّة مدروسة”.
الكاتب جلال مراد أيضاً يميل إلى الموافقة على هذا الكلام حيث يقول: “شعارات الثورة وروحية 2011 لم تكن تحمل معها التعصب الديني، لقد كان هناك تمرد على مركزية خانقة عبرت عن نفسها بالشعارات التي تبنتها وصدحت بها حناجر السوريين. ولعل المشترك بين كل تلك الشعارات “الشعب يريد”. الشعب يريد إحساس وتعبير حُرم منه السوريون حينما كان هناك دوماً من يريد عنهم ويفكر عنهم”.
ويضيف مراد: “كانت السلسلة تنتشر من تونس لمصر لليبيا، وقد تنبهت واستنفرت الدول العربية لخوف حقيقي من انتقال الثورة. القوة الضاربة كانت دول الخليج بزعامة السعودية فكان مفعول الجزرة أقوى من مفعول العصى، وما تم فعلاً هو فصل إدارة الكتائب عن الإدارة السياسية والمدنية، حيث وضعت الدول الخليجية بشكل أساسي اليد على الكتائب، وغذت الفكر التكفيري. ذلك الفكر الذي امتلك القوة وبالتالي الجبرية لتحقيق نفسه بالحجاب وغيره من مظاهر الحياة التي تعبر عن هذا الفكر”.
ويربط مراد هذا التراجع بالتراجع على مستوى العالم: “نلاحظ أن أزمة الرأسمالية ونمط الحياة الاستهلاكي وتحلل القيم الإنسانية لصالح قيم الاستهلاك، أدت لردة الجماعات الإنسانية للتحلق حول هوياتها الجزئية؛ فاليمين بدأ بالتشكل في أوروبا، وأصبحت المصلحة الإمريكية المجردة من أي أخلاق إنسانية سافرة عن نفسها، والإسلاميون أيضاً ارتدوا لمكوناتهم الدينية، والكرد للقومية والأقباط للقبطية والأقليات المذهبية وهلم جرا..”.
ويلخص مراد رأيه بموضوع الحجاب كظاهرة في سوريا ببعدين أساسيين:
“بعد خاص يتجلى باستثمار الخليج بالسنة والتوجه الوهابي لإيقاف المد الشيعي. وبعد عام يتجلى بانكفاء الهويات الجزئية على نفسها نتيجة فشل النظام المدني- الرأسمالي في تلبية التوجهات الروحية الإنسانية”.
الصحفية والناشطة ياسمين مرعي، والتي كانت لها تجربتها الخاصة مع الحجاب لا تعتقد أن القضية هي قضية تعميم الحجاب، بقدر ما هي المساحة التي أتيحت لتسليط الضوء على المجتمعات السورية المتدينة التي كانت خارج دائرة الضوء قبل الثورة السورية”، مضيفة: “هذه الإتاحة ارتبطت بما عرف بالمناطق المحررة التي يسود أغلبها الطابع السني من جهة، وتتركز فيها قوى المعارضة المسلحة ذات الطابع الإسلامي بدورها من جهة أخرى”.
كان لا بد لنا هنا من طرح سؤال آخر أكثر جذرية، ويرتبط بمنطلقات الثورة وأهدافها، وبمطالب الحرية والتمدن التي رفعت شعاراتها الثورة السورية منذ البداية، ألا يتناقض تصاعد وتعميم الالتزام بارتداء الحجاب وانتشاره مع مطلب الحرية؟
يجيب الدكتور عماد العبار: “لا يوجد تعارض بالأساس بين تحرّر الإنسان وبين الزيّ الذي يختاره. أعتقد أنّ السؤال ينطلق من مسلّمة أخرى خاطئة، ومفادها أنّ الحجاب مفروض على المرأة، وهو مفروض عليها في حالات ولكنّ كثيرات اخترنه عن طواعية. الأمر نفسه يحدث مع غير المحجّبة، فكثيرات من غير المحجبات محاصرات ضمن أوساطهنّ بأفكار وتصورات تجعل من غطاء الرأس علامة على التخلف، وبالتالي ثمة نظرة جاهزة واتهام مسبق للمرأة تجعل نفسها عرضة له فيما لو قررت وضع غطاء الرأس، مما يجعل كثيرات منهنّ يرفضن الفكرة من أساسها، بل ويحاربنها ايضاً، ليس بسبب قناعة وإنما بسبب خوف غير واعٍ من نظرة جاهزة ومسبقة.. هنا يتوجب علينا إذاً الكلام عن زي مفروض على المرأة، سواء كان حجاباً أو كان عكس ذلك تماماً. فإذا كان الزيّ، مهما كانت صفته، ناتجاً عن قناعة حقيقية واختيار حر، فلا يحق لأي كان أن يجعل الاختيار معاكساً لمبدأ الحرية..”.
أما الكاتب ماهر مسعود فيجيب بنعم على ذات السؤال: “نعم، يتناقض تعميم الحجاب مع مطلب الحرية، ولكن هذا ليس بالمطلق، بل إذا فهمنا أن ارتداء الحجاب وتعميمه كان قسرياً بمعنى من المعاني، لعدم وجود خيارات حرة أمام النساء ولا سيما نساء الداخل السوري”. ويضيف مسعود: “إن هزيمة المجتمع السوري أمام عنف النظام اللامعقول، خفّضت من مساحة الحرية الاجتماعية بشكل عام، وتزايد المظاهر الدينية (والحجاب ليس استثناء هنا) كان عاماً في سوريا وهو سيبقى طالما بقي المجتمع معنّفاً، والعنف هو سيد الموقف. وطالما أن الحرية السياسية، وهي أبسط أنواع الحرية، لم تتحقق بعد، فإن الحريات الأعقد الاجتماعية والدينية ستبقى تجارب فردية ومحدودة وخاضعة للتجارب الشخصية، ولن تتحول إلى ظواهر عامة تسود المجتمع في كل فئاته”.
الصحفية يارا بدر تربط الأمر بغياب القانون، حيث تقول: “حين يكون القانون هو الحاكم بين الناس فلا تناقض طبعاً، حين يكون القانون الذي يحترم الإنسان والكرامة الإنسانيّة ولا يفضّل مسلماً على غير المسلم حتّى، فالله من يحاسب الناس جميعاً وليس نحن البشر الفانون. لكن حين تكون الدولة في مرحلة تبدّل في أنظمتها المجتمعيّة والدستوريّة والقانونيّة.. أقول إنّني لا يمكنني أن أخرج من خوفي بأن يقتنص مَنْ خوّل لنفسه محاكمة البشر باسم الدين وراياته هذا التغيّر وأن يلغيه ويُقيم بدلاً عنه ديكتاتورية دينية كما حدث في أفغانستان وإيران وبعض دول الخليج”. وتتابع: “ذات الديكتاتورية التي يخشى المسلم من قيامها لتلغي له حريّاته الدينية كما حدث في أنموذج الديكتاتوريّات الستالينية، لكن اليوم أعتقد أنّه على هذا المسلم أن يتفهّم خوف المؤمنين بالله والمؤمنين بحرّيتهم الفرديّة وخياراتهم وأفكار القانون والدولة والمواطنة”.
أما الصحفية ياسمين مرعي فتختم بالقول: “إذا كان ما يحدث في سوريا هو تصاعد وتعميم فعليين لارتداء الحجاب، فهو بصيغة ما يتناقض مع مطلب الحرية في مساحتيها الشخصية والاجتماعية. الخطير في الأمر هو محاولات قصر الثورة على طيف واحد من الشعب السوري من وجهة نظر الفصائل الإسلامية التي تتبنى هذا النوع من التوجه، وتتغاضى عن الكثير من الأولويات أمام ادعاء تطبيق الشرع بملاحقة النساء، من تحجبت ومن تنقبت، ومن جهة أخرى الخطر كامن في تصديقنا كعلمانيين لمتلازمة تمدد الثورة- الأسلمة، هناك رغبة عارمة لدى السوريين والسوريات تحديداً بالتحرر من أشكال القيود كافة، ما يحدث في سوريا اليوم هو نتيجة فوضى السلاح، وهو كذلك ردود فعل على فصل الشعب السوري طائفياً، لكنه عارض سيزول بزوال السلاح من سوريا كعامل أساسي لتخويف الناس وفرض قوانين وأحكام سيأتي وقت ينتفض عليها السوريون ليعودوا إلى طبيعتهم”
كاتبة صحافية وناشطة سورية من الجولان المحتل، نائب رئيس تحرير طلعنا عالحرية.