Site icon مجلة طلعنا عالحرية

معارك لتحرير التعليم

التعليم في الغوطة الشرقية

البحث عن الاستقلالية والظروف غير المواتية  ميزتا العمل في المدارس البديلة

امتد عمر الثورة السورية أكثر مما قدّر كثيرون. وبعيداً عن أسباب هذا (العمر الطويل) يجد السوريون أنفسهم أمام تحديات جديدة أفرزها الوضع الجديد؛ كتأمين خدمات ومؤسسات بديلة، وخاصة في المناطق (المحررة) التي ينسحب منها جيش النظام، ويسحب معه جميع (العطاءات) التي كان  (يمنّ) بها على (رعاياه) في المدينة. والرسالة الجليّة: (خدمات ومقدّرات الدولة مقابل الولاء للنظام)! بل أكثر من ذلك، فحالما ينسحب جيش النظام من مدينة، تبدأ فصول جديدة من عقابها قصفاً وتدميراً من قبل الجيش المسحوب نفسه، ويُضرب عليها حصار شديد، لمحاولة خنقها وإعادة إخضاعها.

في منطقة الغوطة الشرقية (المحررة) كان لفريق طلعنا عالحرية جولة ميدانية لسبر واقع المؤسسات التعليمية الناشئة.

مؤسسة اقرأ التعليمية

 أبو مصعب (28 سنة) كان يعمل في الخياطة قبل الثورة، ومن أوائل من التحقوا بركبها، وهو أيضاً من أوائل من حملوا السلاح في الغوطة الشرقية. لكنه ترك العمل المسلح، وعاد إلى العمل المدني في الشأن العام من خلال المدارس البديلة في المناطق المحررة.

اصطحبنا أبو مصعب في جولة على عدة مراكز لمؤسسة اقرأ التعليمية التي ساهم في تأسيسها مع عدد من المدرسين والتربويين المختصين في مدينة دوما، وذلك في نهاية عام 2012 بعد انسحاب قوات النظام من مدينة دوما وباقي الغوطة الشرقية.

تطبيع الحياة

بعد حوالي ستة أشهر من افتتاح مؤسسة اقرأ، فاق عدد طلابها 6000 طالباً وطالبة، يعمل على تدريسهم 170 معلمة وبضعة معلمين. يقول أبو مصعب إن “افتتاح المدرسة ساعد في تشجيع الأهالي للعودة إلى بيوتهم بعد النزوح”، ويمكن فهم هذا، فوجود (مدارس) و (دوام) وطلّاب يمشون في الشوارع يضفي على جو المدينة المحاصرة نوعاً من التطبيع.

مدارس ولكن…

جميع المراكز التعليمية في أقبية، فقد تعذّرت الاستفادة من أبنية المدارس النظامية لأنها تشكّل أهدافاً لغارات طائرات الميغ وراجمات الصواريخ والقصف المدفعي لقوات النظام. وإلى جانب القبو -لافتتاح مدرسة- قبل البحث عن المعلمين والمشرفين، يجب الحصول على مولّد كهرباء جيد، ويجب كذلك التفكير في تأمين الوقود له… والبقية تأتي.!

هذا وغيره يجعل المدارس البديلة تشبه كل شيء إلاّ المدارس الطبيعية… فهذه (المدرسة) هي عبارة عن قبو قليل التهوية ولا يرى الشمس، تتوزع الصفوف على أطرافه بمساحات متفاوتة لا تتجاوز أكبرها 25 متراً، وقد يصل عدد الطلاب في الصف الواحد إلى الأربعين. جدران من الخشب أو الكرتون تفصل الصفوف عن بعضها، لا تصل السقف وبالكاد تشكل عازلاً بصرياً بين الصفوف.

مؤسسة رواد الهدى التربوية

لا يختلف وضع المدارس كثيراً في مؤسسة رواد الهدى التربوية المشابهة لمؤسسة اقرأ من حيث اشتغالها بتأسيس مدارس في المناطق المحررة. الأقبية مرة أخرى، وهدير المولدات الغليظ هو الخلفية الصوتية لأي مشهد، وعموماً صار المولّد أداة حيوية ومحورية في حياة أهالي الغوطة الشرقية مع إتمام الشهر السابع لانقطاع الكهرباء عنها.

إلا أن الصفوف في “رواد الهدى” أقلّ ازدحاماً، وتكلّم الأستاذ طارق -وهو مدير إحدى مراكز مؤسسة رواد الهدى التعليمية في مدينة عربين- عن وجود حدّ أقصى لعدد الطلّاب في الصفّ الواحد.

الصفّ المزدوج !

 حدثنا أحد المشرفين في مؤسسة اقرأ عن اضطرارهم لعزل بعض الصفوف عن بعضها بستارة رقيقة ليوفروا كلفة الجدران، لكن يبدو أن حتى هذا (الحجاب) الخفيف قد يضعف الحال عن تأمينه؛ ففي إحدى الغرف ترى صفّاً مزدوجاً؛ فيه رتلان من المقاعد ويعامدهما رتلان آخران والمفارقة أن كلّ رتلين يشكلان صفّا متمايزاً عن مجاوره، ولكل صفّ معلّمة تقوم بشرح درس مختلف لطلاب مختلفين!

أعادت إحدى المدرسات -باعتزاز- ذكر هذا المثال عن الصفّ المزدوج في سياق تدليلها على تحسّن حالة التواصل بين المدرّس والطالب بالنسبة لما كان الوضع عليه في المدارس النظامية.

 تحدّي الاستقلالية:

 “في هذه الأيام لا يمكنك أن تعمل مستقلاً” إلى هذا خلص أبو مصعب بعد محاولاته لجلب تمويل غير مشروط للمؤسسة.

وكرّر نفس الفكرة الأستاذ طارق من مدارس رواد الهدى التابعة لمؤسسة الهدى. ولكنه أكّد عدم قبوله بأي شروط مقابل تمويل العملية التعليمية في المراكز: “اشترطنا أن لا يتمّ فرض أي أجندة أو توجّه… صحيح أن لمؤسسة الهدى توجّه معروف، ولكني كمشرف على المدرسة ليس عندي توجّه لأمليه للطلاب، وأرفض رفضاً قاطعاً الدعم المشروط”.  وأردف الأستاذ طارق: “إن الأهالي يتبرعون دون مقابل وهذا -على قلّته- يدعم المؤسسة بالفعل”.

جميع من التقيتهم من المشتغلين بالتعليم أشاروا إلى أهمية أن يبقى التعليم مستقلاً وأنه هدف بحد ذاته ولا ينبغي أن يكون وسيلة… وبعضهم عبّر عن خطورة تسيس التعليم خاصّة إذا تمّ فرض الأجندة من قبل جهة عسكرية.

تدريس المناهج غير السورية هو إشاعة

نفى المشرفون في كل من مؤسسة اقرأ ومؤسسة رواد الهدى (إشاعة) أنهم يدرسون منهاجاً مستورداً، وإنما هم يعملون على تدريس المنهاج السوري نفسه بعد حذف مادة (التربية القومية الاشتراكية) وكل ما يمجّد النظام وحزب البعث من مقررات التاريخ والأدب وغيرها، والبعض أجرى تعديلاً على مادة التربية الإسلامية أو أضافوا حصصاً لتعليم القرآن والعلوم الإسلامية. ويجري العمل من قبل (المجمّع التعليمي في الغوطة الشرقية) مع مؤسسات نظيرة في مناطق أخرى على توحيد المناهج التعليمية على امتداد الأرض السورية.

ضحك ورسم وجد وشعر

في مجمل المدارس لاحظنا تركيزاً على هوايات الرسم والشعر والإنشاد أو المسرح الإنشادي. وكل المساحات مغطاة بأعمال تشكيلية ورسومات للأطفال أو للمدرسين، ولكن ما يبدو أن المدرسين يتعاملون مع الهوايات الموجودة عند الأطفال الموهوبين، دون العمل على تنمية شيء منها بطريقة منهجية.

عن الرسم تقول إحدى المدرّسات في مؤسسة اقرأ: “حاولنا التعامل مع الضغط النفسي والمشاكل التي يعاني منها الأطفال من خلال الرسم، ولاحظنا تغييراً في مزاج وطريقة تفكيرهم من خلال رسوماتهم والألوان التي يستخدمونها؛ ففي البداية كانت كل رسومهم عن الحرب والأسلحة، بينما صرنا نرى الآن رسومات أكثر تفاؤلاً وأكثر ألواناً”.

إنتاجية عالية

رغم الظروف غير المواتية، كرر جميع المشرفين فكرة مفادها أن الطلاب مرتاحون وإنتاجيتهم الدراسية عالية مقارنة بطلاب المدارس النظامية. بل أن (الرجعة للمدرسة النظامية) هي تهديد فعّال للطلاب المشاغبين.

امتحانات الشهادات.. معضلة أخرى

يبدو موضوع التحصيل العلمي والتربوي أقل تعقيداً عندما نأتي لامتحانات الشهادات. يقول أحد العاملين في المجمّع التعليمي في الغوطة الشرقية: “حاولنا العمل على هدنة لإجراء امتحانات الشهادات. وزير التربية لم يوافق رغم أن  قادة الكتائب وافقوا جميعاً”. ويتابع: “سنجهز مراكز امتحانات وأسئلة موحّدة وإدارة مركزية لامتحانات الشهادات” وبلغنا أن مراسلات لمنظمة اليونيسكو تمت لإيجاد آلية ما للاعتراف بهذه الامتحانات وبالشهادات الممنوحة من قبل المؤسسات التعليمية في المناطق المحررة، دون أن نعرف ما أدت له هذه المراسلات.

المولّد المتآمر !

من الشائع أن يفصل المولّد الكهربائي كل حين، ويريح الطلاب والمدرسين من (جعيره)، لكنه بالمقابل يتركهم للظلام.

ومع المولّد وبدونه، لا تنفكّ تلمس حماساً من كل الطلّاب الصغار الذين تكلمنا معهم… وجميعهم رجّح كفّة المدرسة البديلة على حساب (المدرسة القديمة). قالت رانيا (في الصف السادس) بتلقائية إن “هذه المدرسة أحلى ولو عتمة”!

وبينما يتمّ علاج المشكلة تتابع الدروس سيرها على أضواء الشموع، أو بطاريات وقداحات تحملها أياد صغيرة.

هل يكفي الحماس؟!

تركنا المركز التعليمي الأخير، وفي خاطر كلّ منا أسئلة كثيرة وثقيلة.. من مثل: هل يكفي إصرار رانيا وزملائها على المدى الطويل لقيام المؤسسة التعليمية في سوريا الجديدة؟ وهل تستطيع قداحاتهم الصغيرة وعيونهم اللامعة إنارة عالمنا البائس؟!

Exit mobile version