جيوفانا دي لوكا
منذ كنت في السادسة عشرة من عمري كنت أشارك في المظاهرات المنظمة في مدينتي الواقعة جنوبي إيطاليا، والتي تطالب بتحسين ظروف المدارس العامة أو المدافعة عن حقوق العمال.
في ذلك الحين، ومهما كانت قضية المظاهرة، كان لا بدّ أن يحضر العلم الفلسطيني في وسط المظاهرة، يرفعه شخص ما. وعلى الرغم من بعد المسافة بيننا وبين فلسطين، كانت انتهاكات “إسرائيل” ضد الشعب الفلسطيني خلال التسعينات أمراً جلياً بالنسبة لنا كإيطاليين.
ومرت السنوات، ولا يزال الجميع هنا في أوربا على علم بأن هناك أراض فلسطينية محتلة. ورغم ظهور شيء في حياتنا اسمه “العولمة”، بحيث لم تعد سوريا والدول العربية بعيدة عنا، إلا أن أحداً لم يكن يعرف بالفظائع التي ترتكب في سوريا منذ عام 1970.
كانت مصر وجهة سياحية مفضلة بالنسبة للسائح الإيطالي، وكذلك كانت تونس لجمال شواطئها، كما كانت ليبيا دولة صديقة لأنصار برلسكوني، رئيس الوزراء آنذاك، ولداعمي القذافي.
وعندما بدأ الطغاة العرب يتساقطون واحداً تلو الآخر، كنا نتساءل: “لكن.. ماذا عن سوريا؟.. ماذا عن هذا البلد الذي يبعد عنا مسافة ثلاث ساعات بالطائرة!”.
لطالما كان الكلام إشكالياً عن “مملكة الصمت” التي تحكمها أسرة الأسد. خاصة بوجود جهات إعلامية داعمة للأسد، وتتبنى رواية نظامه بنشر معلومات كاذبة عن المعارضة، وتعتبر الثائرين إرهابيين، بينما يتم الكلام عن الأسد “الاشتراكي” والذي يعادي الولايات المتحدة وإسرائيل.. مع تتمة الأسطوانة القديمة.
لكن من كان يتابع أخبار الثورة من الناس على الأرض، عبر فيسبوك ويوتيوب، عرف بأن المظاهرات كانت سلمية صرفة، وأن النظام السوري استخدم كل أدواته الوحشية لقمعها، وعرف أيضاً كمية الاعتقالات وعمليات الخطف، وكذلك التفجيرات وقصف المدن.
ولم يكتفِ النظام السوري بذلك، بل قرر أن يستخدم سلاحاً جديداً ضد الشعب الثائر: الحصار. يريد أن يمنع عنهم الطعام والدواء والوقود حتى يقتصر تفكيرهم على الخلاص وتدبير معيشتهم، بدلاً من أن يفكروا بالثورة عليه.
كانت صور من يتضورون جوعاً في المناطق المحاصرة في سوريا، تذكرني بالمحتجزين في معسكرات الاعتقال النازية.
كيف أمكن لهذه المأساة أن تقع أمام أعين العالم كله؟
اكتفى العالم بالإدانة والتنديد، لكنهم لم يفعلوا شيئاً لمساعدة السوريين على أرض الواقع، في حمص وداريا والغوطة، وفي مخيم اليرموك، وفي حلب..
كيف أمكن للعالم المنافق أن يصمت عن كل هذه المآسي؟!
كيف أمكن أن يبقى الأسد وعائلته في السلطة بعد أن نكّل بشعبه جوّعاً وقتلاً وتعذيباً؟!..
وهكذا، وبينما أتابع أخبار الحصار في غوطة دمشق، قرأت شيئاً لمحامية وناشطة في دوما، تستنكر كلّ الجرائم المرتكبة من كل الأطراف، وعرفت أنها كانت مطلوبة من قبل مخابرات النظام.. كان اسمها “رزان زيتونة”!
ولكون النظام يبحث عنها غادرت رزان دمشق، وتبعتها سميرة الخليل، وهي أيضاً -مثل رزان- لم تدخر جهداً لتقديم العون للناس وسط كل تلك الأحداث المأساوية.
ثم انضم وائل حمادة وناظم الحمادي للمجموعة في الغوطة، ليشاركا في الأعمال الكبيرة التي كانت سميرة ورزان تقومان بها مع ناشطين وناشطات هناك.
ولأنهما حرتان وصاحبتي صوت حرّ، لم تخشيا من رفع الصوت عالياً، حتى في وجه المجموعة السلفية التي كانت تسيطر على دوما وقتها.
إنها المرة الأولى بالنسبة لي -كامرأة أوربية- التي أرى فيها نساءا يتحلين بهذا القدر من الشجاعة!
كانت صدمتنا كبيرة عندما علمنا باختطاف النشطاء الأربعة. وبدأنا بعدها نرى المسؤولين وأصحاب القرار من دول مختلفة يستنكرون هذه الجريمة، ولكن، ومرة أخرى، لم يقدم أحد المساعدة لعائلات المختطفين باستعادة أحبابهم. لم نرَ إلا كلمات جوفاء من المسؤولين الغربيين، كما حدث مراراً وتكراراً.
من أجل ذلك أخذت القرار بأن علي أن أعرّف الناس بهؤلاء الناشطين والناشطات، وأن أتكلم عنهم وعن عملهم.
فترجمت العديد من المقالات التي كتبتها رزان خلال الثورة، وجمعتها في مدونة على الانترنت.
ونشرت مقالات تتحدث عن سوريا وعن الثورة السورية وإجرام النظام بحق الشعب السوري.
وفي 9 كانون الأول/ ديسمبر الحالي نظمت مع مجموعة من الناشطين السوريين والغربيين ندوة للكلام عن قضية المختطفين الأربعة. كان من بين المتحدثين “أرتينو” وهو مصور كان موجوداً في الغوطة مع الناشطين الأربعة، وكان الحديث مؤثراً للغاية، خاصة بسرد قصص لم نكن نعرفها عن سميرة وعن رزان، وعن تفاصيل الحياة اليومية في دوما برفقة النشطاء الأربعة.
اكتشفت أنهم أكثر شجاعة وإنسانية حتى مما كنت أعتقد!
في عام 2018 بدأت بقراءة مذكرات سميرة باللغة الإسبانية. في ذلك الربيع، جاء زوج سميرة، ياسين الحاج صالح، إلى برشلونة لتقديم الترجمة الإسبانية لكتابه “الثورة المستحيلة”. كنت قد ترجمت بعض مقالاته، وأردت أن أغتنم الفرصة للقائه، والاستماع له. وكانت تلك حقاً لحظة مهمة بالنسبة لي. فهو رجل عظيم فعلاً.
بعد أيام قليلة كتبت له: “مرحباً ياسين.. أريد أن أترجم مذكرات سميرة إلى الإيطالية. يجب أن يعرف الإيطاليون ما حدث في دوما وفي سوريا. من الضروري أن يكتشفوا هذه النماذج الإنسانية الرائعة التي كانت تناضل هناك”.
وهكذا، ولمدة سنة ونصف، كنت صوت سميرة الإيطالي. وكان هذا العمل تجربة رائعة، وشرف كبير لي.
مرت 10 سنوات منذ آذار/ مارس 2011 ، بل ما يقارب 11 سنة، والثورة مستمرة.
لا يزال المجتمع الدولي عاجزاً عن التحرك لإنقاذ الشعب السوري، وإسقاط الأسد.
بينما يقضي اللاجئون ليالٍ في قلب أوروبا، يتجمدون ويتضورون جوعًا، تماماً مثلما حدث في سنوات غابرة من حروب البلقان.
“التاريخ أكبر معلم”، ولكن ليس له تلاميذ يتعلمون منه.
والمجتمع الغربي كأنه يعيش في العصور الوسطى. فلا يزال الناس في أوروبا يعتقدون أن الأسد ليس الأسوأ لحكم سوريا، وأن معارضيه هم مجموعات إرهابية دموية.
ولا زال من الصعب إقناع الشعوب في الغرب بالتعذيب والجرائم التي يرتكبها النظام السوري بحق الناس الأبرياء.
لذلك كله علينا أن نطالب بالعدالة والحرية لشعب يكافح منذ 10 سنوات. فالحرية حق لكل البشر، ولو فقدها إنسان واحد، فكأنما فقدها كل البشر.
أضم صوتي لصوت الأحرار من الشعب السوري: نريد الحرية والعدالة لرزان وسميرة ووائل وناظم، ولجميع الـ140.000 مختف أو معتقل قسرياً في سوريا.
مجلة مستقلة، تعنى بشؤون الثورة السورية، نصف شهرية، تطبع وتوزع داخل سوريا وفي عدد من مخيمات اللجوء والتجمعات السورية في الخارج