ليتها كانت مشقّة حياة وحسب! وليتها كانت مجرد صورة عابرة! أو مشهداً عابراً في حياتنا. كانت عنوان طوفان سوري عام.
لم يكن العنوان موفقاً، ومع هذا حققت الصورة جائزة عالمية الشهر الفائت! “مشقة حياة” عنوان غير موفق لصورة لأب سوري مبتور القدم يحمل طفله الذي ولد بلا أطراف بفرح عارم، التقطها المصور التركي محمد أصلان في قرية الريحانية على الحدود السورية التركية. وفد تناقلت وسائل الاعلام فوز هذه الصورة بجائزة صورة العام 2021 بمسابقة SIPA الدولية للصور. لتشير إلى المعنى الإنساني والعاطفي المحتوى فيها، مجسدة وبحرفية عواطف الأب “منذر النزال” مبتور القدم وهو يبتسم لـ”مصطفى”؛ طفله الذي ولد معاقاً بلا أطراف!
لم تكن مشقّة حياة وحسب. بل إحدى أوجهها فقط، وإلا افترضنا أن حياة النزال وابنه ومثلهما ملايين السوريين باتت طبيعية بتهجيرهم وتشتتهم، وكل ما يعانونه بضع مشقات من الحياة الطبيعية؛ كتشوه خلقي استثنائي، أو إعاقة جسدية أو نفسية مألوفة بنسبها الطبيعية في أي مجتمع!
كان الأجدر تسميتها “الطوفان والنكبة السورية”، “الكارثة السورية”! فالأب واحد من الآلاف الذين باتوا معاقين بفعل القصف والدمار الذي استمر لأعوام ولم ينتهِ بعد لليوم، في أريحا وعفرين وربما غيرهما، ومجريات الأيام القادمة ستفصح عن المزيد! والطفل واحد من مليون طفل سوري بات يتيماً أو معاقاً أو وُلد مشوهاً، وذلك حسب تقارير الأمم المتحدة! ومصطفى هو الطفل الذي وُلد مشوهاً بفعل مضاعفات الأدوية التي تناولتها أمه أثناء الحمل نتيجة تعرضها لغاز الأعصاب، حسبما أفادت تقارير طبية. ولا أحد يمكنه أن يجزم لليوم إن كان التشوه ناتج عن الأدوية أم عن غاز الأعصاب بذاته. وبالأساس لم يجرِ مسح لمناطق النزاع السوري، أو دراسات توثق التشوه الخلقي أو التغير الجيني الممكن! ففي العراق مثلاً، قامت وزارة الصحة العراقية وبالتعاون مع أكاديميين عراقيين ومنظمات دولية، وخلال حربيها الأولى والثانية، بدراسة التغير الجيني والتشوه الخلقي الناتج عن استخدام أسلحة التحالف الدولي للأسلحة المحرمة وقتها، وأثبتت تضاعفها بنسبة 300%!
في مشهد سابق، إحدى الطالبات العُمانيات وكمشروع تخرج لها، تمكنت من تجسيد الواقع السوري بخروج الأب وابنه من إطار اللوحة. واللوحة كانت سورية، والعنوان كان اللجوء بعد طوفان عارم للقتل والموت. واليوم يصور حال السوري اللاجئ بالمشقّة!
لربما أجاد الفنانين التركي والعماني بوصف المشهد السوري حسياً وعاطفياً، وتسليط الضوء على جزء من معاناتنا العامة، كما أجاد ذلك الشرطي التركي الذي التقط صورة “إيلان الكردي” على شواطئ الهجرة قبل أعوام! ولكنا لم نجد بعد بتصوير طوفاننا على مستوى نقد العمق المتحرك فيه! فرغم ما كُتب سياسياً وبشكل هائل في المسألة السورية، لكن إلى اليوم لم يتشكل بعد وبوضوح فني أو أدبي أو فكري نقد عميق لتحولاتنا البنيوية العميقة في المشهد السوري. فإن كان جزء هام من كوارثنا هو مشقّات الحياة بالداخل، وما يتبعها من اختناقات قاتلة في سبل العيش، وفي الجوار، في دول اللجوء القريب، نكبة البيوت ومخيمات اللجوء وكوارثها الصحية والخدمية، لكنها إلى اليوم وجه من أوجه الطوفان السوري والذي لم يستقرّ بعد.
كان من المدهش المثير للحيرة والغبن لو اكتفى فيكتور هوغو بمشهد لعق النبيذ مع التراب في حي فرنسي فقير عندما وقع برميل نبيذ من عربة وأفرغ محتواه في الأرض، وكانت القصة ستكون مشقة حياة وحسب! وكيف سنعالج حال الفقراء؟ ليأكلوا أو لنطعمهم الكاتو إن لم يجدوا الخبز حسبما اقترحت ماري أنطوانيت وقتها! لكنه أرادها قصة تحولات عميقة تطال بنى المجتمع الفرنسي كافة، حياتياً ومادياً وفكرياً وثقافياً وفنياً وأدبياً، فكانت ثورة حياة بعد طوفان موت..
ميزة الأوجه المأساوية للحياة أنها تمتلئ حساً وعواطف ومشاعر، وهذه وإن كانت تحتاج لما يقابلها من عواطف نبيلة لكنها لا تكفي! كما لا يكفي تجسيدها بصور وفقط، بل الغوص العميق في نقد الموروث الديني والعرفي السائد، وتفكيك بنى السياسة السلطوية والاستحواذية المدمرة للحياة والبشر، والبحث عن إشراقات أدبية وفكرية تحاول أن تشقّ طريقها للنور في رحلة عتمة الطوفان العام! وما يدعو للحيرة، أن محاولات السوريين في ذلك لازالت، ورغم عنادها لجرف الطوفان العام، لازالت تغرق في السياسي وحسب، وقلما تنفذ للعمق باتجاه البحث الدؤوب عن المشترك العام، وعن اعتبار قضية واحدة لفئة أو طائفة أو ملة هي كل القضايا وما عداها ثانوي..
مهمة السوريين المبدعين اليوم تشكيل الفارق المهم والحيوي في تكريس نموذجية الطوفان السوري، وعدم الاكتفاء بنماذج دماره على أهميتها وعظمتها التوثيقة كعمل نبيل، وأيضاً في النحت الشاقّ في الوصول لشطّ الأمان، لا جزره وحسب. وشطّ الأمان الهام، والذي سيمثل حدّاً على طوفان الموت والحرب والعنف وتنازع الشرعيات القاتل، هو القدرة على التعاقد على سيرورة حياة مختلفة عن مجريات طوفان الموت هذا ومسبباته ونواتجه. التعاقد الحر والرضائي على سيادة القانون في وطن تسوده الحريات والإبداع والاستقرار والأمان وقدرة القانون على محاسبة الخارجين عن عقده. وليس ذلك فقط، بل والقدرة على الاعتراف بالأخطاء وعلاجها، وقد يكون أحدها إجراء مسح عام للتشوهات الخلقية والجينية الحادثة كما التشوهات الأخلاقية والوطنية، ومحاسبة مجرمي الحرب ومولدي طوفانها، حينها يمكن أن نسميها “لوحة حياة”، وما يتخللها مجرد “مشقة حياة”..