لعله لم يكن من ضمن قائمة آمال وخطط أهالي داريا المدنيين المنفيين إلى إدلب في 24 آب/ أغسطس 2016 الجلوس في بيوتهم وانتظار أرزاقهم من حصص المنظمات الإغاثية شهرياً، وإنما كان أمل استرجاع حياتهم التي مارسوها آخر مرة قبل الحرب والحصار، وطلبُ أرزاقهم عبر إعادة ممارسة حرفهم التي كانوا يزاولونها في أرضهم بحسب ما أفصحوا وعبروا عنه، وهذا ما دفعهم للمسارعة للبحث عن فرص عمل يتخلّصون عبرها من حالة الركود والفراغ الاجتماعي والنفسي التي بدؤوا يشعرون بها بعد شهرهم الثاني من الإقامة في إدلب.
“خلال سنوات الحصار الخمس، كنتُ أزاول بكثافة تصليح (طرنبات) سيارات الثوار في المدينة، لأني الخبير الوحيد الذي تبقى في المدينة” هكذا يقول “عمر العبار” أحد ثوار داريا المهجَّرين إلى الشمال والمقيمين بجرجناز، ويردف: “عندما خرجت للشمال لم أكن أتوقع أني سأتمكن من إعادة مزاولة حرفتي ثانية إلا عاملاً في الورشات، نظراً لتكلفة إنشائها الباهظة”.
عمر هو أحد المستفيدين من “مشروع الأمل التنموي” والذي يُعدّ بادرة هي الأولى من نوعها في الشمال السوري، قدمته كل من جمعيتي “إنسان بناء للإغاثة والتنمية” و “أم القرى للإغاثة والتنمية” في بلدة جرجناز، ويهدف إلى تشغيل الحرفيين من عوائل داريا المقيمين بالبلدة، والبالغ عددها 76 عائلة بحسب إحصائيات مكتب داريا.
عبر مشروع الأمل تمكّن عمر الذي يعيل عائلة أخيه الشهيد بالإضافة إلى عائلته وأخوته من فتح مشروع خاص به، دون أن يضطر للالتزام كعامل بالورشات التي تقع في بلدات أخرى بعيدة عشرات الكيلومترات عن مكان سكنه الحالي.
دواعي المشروع:
محمد ديرانية مدير المشاريع في “إنسان بناء” والمدير التنفيذي لمشروع الأمل، تحدث لطلعنا عالحرية وقال: “إن إنسان بناء تنظر للسلّة الغذائية على أنها مسكن شهري للألم فقط، لا يسهم بتقديم أي نوع من الحلول الجذرية لحالة الحاجة المتفشية”. وتابع: “إن أي مجتمع تعاني فيه شريحة الشباب والرجال من البطالة سيعاني من خللٍ بالنظام العام، وكلما اتسعت رقعة البطالة كلما زاد هذا الخلل، ولذا كان مشروع الأمل الذي يهدف لتحويل الفرد من شخص مستهلك اتكالي إلى شخصية مبادرة ومنتجة وبناءة”.
تفاصيل العمل بمشروع الأمل:
تتولى الجهات المنفذة تزويد المشروع بالتجهيزات والمعدات اللازمة، بحسب ديرانية، حيث تم شراء العدد والتجهيزات لأكثر من سبع حرف حتى تاريخ 28 كانون الأول/ ديسمبر 2016 مع دفع رسوم تشغيلية وأجرة محل لمدة ثلاثة أشهر، بغرض “مساعدة الحرفي على الانطلاق ريثما يتمكن المشروع من تغذية نفسه بنفسه”. على أن تقتطع الجهات المنفذة نسبة ضئيلة من الأرباح، “للإسهام بتمويل مشاريع تشغيلية أخرى لآخرين” بحسب ديرانية الذي وصفها: بأنها “ستكون حافزاً له على العمل، إضافةً إلى غرس عقيدة المبادرة و العطاء في نفس الحرفي”.
“جمال البسرك” يعمل في الحلاقة وأحد الحرفيين المستفيدين، تحدث عن دخوله بالشهر الثاني من تجربة الاستفادة من المشروع: “استلمتُ معدات الحلاقة كاملة مع أجرة محل لمدة ثلاثة أشهر، وأقوم بإرسال صور قسائم المشتريات أسبوعياً للمدير الميداني عبر الواتس أب، لتسهيل اقتطاع و احتساب النسبة آخر كل شهر”.
“ليس سهلاً أن تخرج من أرضك، وتزداد صعوبة المعيشة إذا كنت عاطلاً عن العمل وعندك أسرة” كلمات “أبو تيسير” أحد المستفيدين من مشروع الحرف، وصاحب حرفة المطعم الذي بلغت تكلفته قرابة 2600$ ويستفيد كذلك للشهر الثاني من مشروع الأمل، أوضح لطلعنا عالحرية عن كيفية بدء المشروع: “وصلنا عبر “مكتب داريا” الكائن بجرجناز دعوة لحضور اجتماع مع منظمتي أم القرى وإنسان بناء، وخلال الاجتماع تمّ إبلاغنا بالمشروع وبتفاصيله، وبتقديم طلبات انتساب لكل من يرغب بالعمل والاستفادة”.. وبحسب أبو تيسير: “المشاريع التشغيلية إضافةً لأهميتها المادية، فهي تعيدنا بالذكرى إلى أرضنا التي أُخرجنا منها، وتُسهم بإعادتنا إلى الحياة المدنية التي حُرمنا منها طوال خمس سنوات”.
تكلفة المشروع الواحد:
لا يوجد سقفٌ محدد لكلفة المشروع، وإنما “تُراعى نسبة الأفراد الذي يرعاهم المشروع بالقياس إلى تكاليفه” بحسب ديرانية، وفي بنود العقد، يتعهد المستفيد بالحفاظ على المعدات والتجهيزات سليمةً من الأذى الذي يمكن أن ينشأ عن الإهمال أو سوء الاستعمال، ولا يشمل التعهد الأذى الناتج عن الظروف القاهرة.
وتتولى جمعية أم القرى للإغاثة والتنمية المحلية سائر المهام اللوجستية المحلية، مثل تأمين المحلات بأسعار مناسبة، وتيسير التنفيذ بالتنسيق مع المجلس المحلي والمؤسسات المحلية، بالإضافة إلى الإشراف العام على تنفيذ المشروع وتقديم المشورة والنصائح والمساعدات المباشرة، إلى جوار دورها الجوهري كخلفية أمنية للمشروع، والذي تستمدّه من كونها جهة محلية، تضمنُ تنفيذ بنود العقود، والمحاسبة في حال تمت المخالفة، بالتنسيق مع المؤسسات المحلية المعنية.
وعن سبب دعم “أم القرى” للمشاريع التنموية يقول “حسين الدغيم، أبو عمارة” مسؤول منظمة أم القرى: “السلة الإغاثية آنية، بينما الحرفة مستمرة” ويضيف: “إن صاحب العمل يستطيع من خلال حرفته كفاية نفسه وعائلته وربما أكثر من عائلة، وترك الاعتماد على الغير، علاوةً على ما في السلة الغذائية من غرس تدريجي للاتكالية في نفوس أرباب الأسر والأطفال”.
ولدى سؤاله عن رؤيته لمستقبل العمل الإغاثي بالشمال، فقد فضل “أبو عمارة” أن يكون “أقرب للواقعية” بحسب وصفه، وقال: إن “النمط الإغاثي المعمول به حالياً من غالبية المؤسسات الإغاثية يعتمد أسلوب تسكين الألم، ولا يقدم حلولاً جذرية، ومن الأفضل لهذه المؤسسات أن تدرس إقامة مشاريع تنموية لها، لما لها من إيجابيات على المدى القريب والبعيد”.
“إنسان بناء” لم تكن بعيدةً عن “أم القرى” في رؤيتها، وبحسب ديرانية: “إنسان بناء ستسعى بعد إنهاء تجربتها الأولى، وبالتعاون مع مُنظمات صديقة، إلى خلق واقع إغاثي جديد، تكون فيه المشاريع التنموية هي القاعدة، والسلات الغذائية هي الاستثناء”.
مجلة مستقلة، تعنى بشؤون الثورة السورية، نصف شهرية، تطبع وتوزع داخل سوريا وفي عدد من مخيمات اللجوء والتجمعات السورية في الخارج