بشرى البشوات
خرج حسين الضاهر من مدينة تمتد بتاريخها لآلاف السنين، عاصمة العواصم كما سمّاها هارون الرشيد، مدينة البحتري، وعمر أبو ريشة.
خرج حسين من منبج.
يقول حسين عن ذلك: “في سنوات نشأتي الأولى، تنقلت بين عدة محافظات سورية بحكم الدراسة والعمل، ثم إلى بيروت التي أدين لها بالكثير، بيروت احتضنتني وصقلت شخصيتي، لا أرى بأنني أنتمي إلى مكان بعينه، ولم أجد تعريفاًخاصاً لمدينتي أو للوطن.. وقد تكون منبج ساهمت في تكوين البدوي الذي يعيش داخلي، فيظهر أحيانًا ليشعرني بالحنين، ويختفي كثيراً”.
“صباح الخير
أما زلتِ على قيد اللجوء مثلي؟
إذًا
لو تحملين معي رفات بعض المدن
فقد تعبت
خذي دمشق المكتظة بالطعنات
خبئي “بردى” في حمالة صدرك
وأخرجيه كلما داهمك الصحو
فلتأخذي بيروت شجرة التفاح
التي أنزلتنا إلى أرض الخطايا أول مرة
خذي منبج
أرض الماء والمحل
الفتاة الساذجة التي تذهب دائمًا برفقة الأوغاد
خذي كل البلاد
واتركي لي براعم هذه المدن السعيدة”.
- إذاً فهو اللجوء “والبلاد التي لا ناقة لك فيها ولا أمل” عن أيّ البلاد تتحدث؟
- جميع محاولاتي في التآلف مع هذه البلاد (تركيا) باءت بالفشل، كما فشلت مرارًا بالفرار منها. لذلك وصلت إلى حالة من اللامبالاة اتجاهها، وأظن أنها هي أيضًا لا تبالي بوجودي.
“هذي البلاد لا ناقة لي فيها ولا أمل
فلتكن دافئة
فلتكن باردة مع إشراقة ربيع
فلتكن منتصرة
فليصعد رجالها إلى المريخ
ولتسقط نساؤها من الجنة كفاكهة ناضجة
هي أمور لا تعنيني
أنا الذي سقطت هنا
كتفاحة نخرتها ديدان الحرب”
- في مجموعتك الشعرية الأولى “مياه صالحة للقتل” تقول: “أنا حسين الضاهر الأكثر حزنًا في حيّنا، والوجع الوحيد لأهلي” لماذا درب الأحزان هذا؟
- لا أحد يتمنى الحزن لنفسه، ولم أختر لنفسي هذا الدرب. لكن إن حللنا هذا الشعور -الحزن- بشكل منطقي، سنجد أنه شعور أصيل متجذر في أنفسنا، على عكس الفرح؛ الذي يأتي على شكل نوبات شبقية متفاوتة التأثير وقصيرة. صحوت في يوم ما لأجد نفسي محاطًا بمفردات غريبة (حرب، موت، رصاص، قارب مطاطي، سلك شائك.. إلخ) هذا ما أجبرني على سلوك درب الأحزان، وإلى الآن لم أجد مخرجًا منه.
“في الكوابيس: أنا اللاهث أمام كلاب المقابر
في طريق اللجوء: أنا الزبد العالق على فم الغريق
في الصور العتيقة: أنا التاريخ المنسي لالتقاطها
في ضبوط الشرطة: أنا الفاعل المتواري تحت أكوام الغبار
في العتمة: أنا كذبة الضوء في آخر النفق
في الخبر العاجل: أنا الجثة المجهولة الهوية
أهز رأسي موافقًا على تحليلكم لطريقة موتي
وأشارككم دفني بكل كياسة“
- من بين المفردات الجديدة أيضاً مفردة الثورة السورية، بعد عشر سنوات ماذا أضافت الثورة إلى اللغة التي تكتب بها؟
- الأدب مرآة الواقع، والكاتب مهما حلق في فضاءات الخيال يبقى ابن بيئته، وفي المحصلة ستظهر انعكاسات الواقع في كتاباته. الثورة السورية كسرت حدود اللغة التي كان من الممكن أن أتقيد بها لو لم تحصل.
- ما الذي أخذك إلى الشعر، ولماذا قصيدة النثر؟
- كانت البداية في منبج. عام 2008 على ما أذكر. حين تبرع أحد الأقارب بنشر محاولة لي، في منتدى إلكتروني، وقد لاقت تفاعلًا جيدًا، ولأنني كنت أعيش شبه استقرار حينذاك لم أكمل. في وقت لاحق أتبعتها بمحاولات أخرى ثم توقفت. وعندما وصلت تركيا، لم أجد أحدًا أتحدث إليه، كنت وحيدًا بكل ما للكلمة من معنى. فبدأت الكتابة كي لا أجن. وهكذا إلى أن وجدت نفسي هنا بمحض الصدفة. في البدء لم أعرف أن ما أكتبه يسمى “قصيدة نثر”. لاحقًا علمت الفوارق والإشكالات الدائرة حولها، لكن الأمر ليس مهمًا بالنسبة إلي.
أما أنا فقد جئت إلى الشعر متأخرًا
بعد أن تفتقت أشجار المصيبة في حقلنا
زهرًا يستحق النواح
فنحت.
- في مجموعتك “مياه صالحة للقتل”، تأتي على ذكر اسمك وعمرك أكثر من مرة، ما دلالة ذلك؟
- كنت أحاول تعريف الناس بي، وأنني ما زلت على قيد الحياة؛ نجوت بعد حرب ونزوحين.
- كان إهداء مجموعتك الأولى “مياه صالحة للقتل”، موجهاً للمرأة في حياتك (الأمّ، الزوجة، البنت) في مجموعتك الثانية “مشاهد يتلوها البدوي” تهدي نصوصك إلى الدنيا. ما هي الدنيا التي ينتمي إليها حسين؟
- هي الأنثى أيضًا؛ الأنثى التي تغزل أهدابي بأصابع وردية.
- في مجموعتك الثانية “مشاهد يتلوها البدوي” تكثيفها العالي، اللقطات القريبة جداً، بقعة الضوء التي تحمل العادي إلى منصة عرض كاملة، هل هذا مقصود؟
- ربما يرى البعض أن مجموعة “مشاهد يتلوها البدوي” هي ظل للمجموعة الأولى “مياه صالحة للقتل”، لكنني أرى أن كل ما كتبته، يعد محاولات للتجريب. إلى الآن لم أجد مساري الخاص الذي سأسير فيه، ومن المؤكد أن أجده. لذا سأبقى أجرب.
- هل للشعر وظيفة، وإن وجدت فما هي؟
- أعتقد أن وظيفة الشعر تتغير بحسب المراحل التي يمر بها كاتبه، ففي مرحلة ما كان بالنسبة لي حاجة، وفي مراحل أخرى متنفساً، والآن قد أُعرفه على أنه رفاهية.
- حصلت على جائزة المعري للفنون الأدبية 2018 وجائزة رابطة الكتاب السوريين 2021. ماذا تضيف الجوائز إلى رصيد الشاعر؟
- يحتاج الكاتب بين الحين والآخر لحافز مادي ومعنوي كي يستمر في مشروعه، وأرى أن الجوائز هي السبيل الأمثل للحصول على هذا الحافز.
أخيرا يستعير حسين الضاهر لسان صديقه أحمد بغدادي ليقول: لحسين الضاهر البدوي” “لا تمت إلا بوقتك”!
مجلة مستقلة، تعنى بشؤون الثورة السورية، نصف شهرية، تطبع وتوزع داخل سوريا وفي عدد من مخيمات اللجوء والتجمعات السورية في الخارج