Site icon مجلة طلعنا عالحرية

مشاهد دراميّة من مسلسل التعليم السوري

يوسف صادق

مسلسل التعليم السوري من إنتاج جهة وحيدة تحتكر إنتاج وصنع العلم وطلّابه، وتضع عليهم شارتها كأفضل مُنتَج قابل للاستهلاك! يُخرجه شخص يهدف لتلميع صورة أسياده، أمّا الطلّاب والمعلّمون والإداريون فممثّلون بارعون، يمارسون أدوارهم في منظّمات السلطة وميادينها بإبداع وإتقان، أمّا مناهجهم فلنترك للمَشاهد الحديث عنها.
بعد عشر سنوات بات لدينا مشاهدُ وإنتاجٌ دراميّ ينافس مشاهد بقعة ضوء ومرايا، نختار بعضها علّها تختصر السؤال: ماذا يتعلّم أطفالنا في سوريا؟ وأين هو بناء الإنسان في تلك المشاهد؟
مشهد رقم (1): تراجيدي قصير:
أطفال يجلسون على الحجارة وبقايا الأخشاب في مدرسة مهدّمة، وما زالت بعض المقاعد المحطّمة شاهدةً على تلاميذ كانوا هنا..
مدرسةٌ مفتوحةٌ على العالم الفسيح، يشترك الخارج مع الكتب بعملية التعليم دون استئذان، فالعلم لا يقتصر على معلومات الكتب، ما سرُّ هذا الإصرار على التعليم وسط الدمار؟ يتساءل أحدٌ ما! أليس الدمار الحاصل في بيوتهم ومرافقهم أولى بالاهتمام؟
الأطفال يردّدون خلف معلمهم بحماسةٍ: نواجه خراب المكان بعمارة القلوب والنفوس، نراجع تاريخنا بعد عشر سنوات، هي عمر سوريا الحديثة، لا خوف يمنعنا من هذا المكان، وكلُّ ما نتعلّمه حقيقيٌّ.. لا نمجّد أحداً، ونعرف أن لا وظيفة تنتظرنا الآن، حسبنا أنّنا بدأنا نحبُّ التعليم كما نحبُّ هذا المكان بحطامه!
مشهد رقم (2): تراجيدي قصير:
أطفالٌ يفترشون التراب بدفاترهم، ومَن لا يملك دفتراً يخطُّ على الأرض بعصاً، يظلّلهم شبه خيمةٍ تفتح فمها للرياح وللمدى، التراب أقرب لدفاترهم للحياة، والشمس شاهدةٌ على نداء الحياة، نداء الغد. يواجهون عزلة المنفى في المنفى الكبير، بانتماءٍ للمستقبل، يعرفون أنّ العلم يملأ ويحيي المكان مثلما يحيي النفوس، وإذا ما تساءل أحدٌ عن جدوى التعليم في هذا (المنفى)، حسبهم يقولون: التعليم لا ينتظر وقتاً محدّداً، التعليم إحياءٌ للروح، وخلق انتماء للمستقبل.
لو كان روبنسون كروزو جاهلاً لما فكّر بتعليم أولاده على الجزيرة المهجورة. إنّه يؤمن مثلما يؤمن أطفال الخيام والمدارس المهدّمة بالغد، وإنّه لا يوجد لحظة عدم أو فراغ. لحظات العدم والفراغ من صنع اليأس واضمحلال الحياة. حسبهم أنّهم يهيّئون أنفسهم لسعادةٍ قادمةٍ. وليس زمن التعليم في الخيمة أو المدرسة المهدّمة لحظةٌ عابرةٌ أو جامدةٌ في الزمن، بل لها الأثر البالغ غداً، فلن ينسَ الأطفال ما خطّوه على الحجارة وبقايا الأخشاب وما حفظها التراب من آثار عودٍ صغيرٍ يشبه المحراث. ألم يحفظ الأقدمون جُلَّ الكتب من رقائم طينية وحجريّة؟! ألم يحفظ الشعراء قصائدهم بجانب آثار قومٍ ارتحلوا؟ ألم يرسم كبار الفلكيين حركات النجوم بأعوادٍ فوق وجه الرمال؟ حسبهم انتماؤهم للمستقبل..
مشهد رقم (3): طويل تراجيدي وكوميدي:
على بُعد أمتارٍ من خيام المشهد الثاني، هناك من يصوّر مشهداً آخر في خيامٍ أخرى، لكن ثمّة فروقات؛ فالمصوّر في خيام المشهد الثالث مُكلّف من قِبَل المُنتج بإخراج أجمل الصور، تتصدّر الخيام صور الزعيم الأكبر يلوّح لأحدٍ ما!.. يرقص الممثّلون تحت ظلال الصورة محاولين الوصول بظهورهم للتراب، فيشتدّ تصفيق الجمهور!.. يعيدون المشاهد حتّى يتصبّب الممثلون عرقاً، وبدل أن يقبّلوا التراب يقبّلون أحذية الصور!
حقّاً كما قال غسان كنفاني: خيمةٌ عن خيمةٍ تختلف!.. خيمة الإيمان بالمستقبل غير خيمة الخوف والذلّ من الحاضر والمستقبل.
في خيم الخوف تعليمٌ وتلقينٌ، واستمرارٌ لمسلسل التدجين منذ الحضانة، فهنا النتيجة والثمار السامّة لذاك المسلسل الطويل، هذه الخيمة تختصر كلّ ما يحاول الطاغية تلقينه لأتباعه.
مشهد رقم (4):
ليس المشهد الأخير، لكن ارتأى المخرج أن يتبعه بأجزاء لا تنتهي، نظراً للإقبال الشديد عليه، وحتّى لا تكون نهايته تراجيدية، أدخل المخرج عليه الكوميديا:
الأطفال يهرعون مسرعين إلى مدارسهم، ليس من أجل التعليم، لكن.. حتّى لا يفوتهم الاجتماع الصباحيّ وتحيّة العلم، ليس حبّاً وانتماءً لرمزٍ.. بل حتّى لا يعاقبهم المدير، وتُوضع نقاطٌ سوداء في صفحات أهاليهم؛ فهي أهمّ من المكتوب في دفاتر أطفالهم!
الأمّهات والآباء يشدّون أطفالهم من آذانهم: هيّا للمدرسة!.. يتنافس الأطفال بالهتافات، ليعلنوا عن أنفسهم ببراءةٍ، أنّهم مستعدّون لدورٍ أكبر في مسرحية أكبر، يكونون بها الجلّاد في المستقبل!.. يجاريهم بعض المعلّمين المغلوبين على أمرهم، بينما يستمرئ البعض الآخر تلك المسرحية بأنّها تؤهّلهم للعب أدوار أخرى في مسلسلات أخرى من إنتاج تلك السلطة، فيكسبون الكثير!
الجميع يدور في حلقة مفرغة، في رقصة الموت لبداية عرس لم يتعلموا الفرح فيه، هل الكلّ مغلوبٌ على أمره؟ هل خرج التلاميذ والمعلّمون من هذا العدم وكسروا قيود الطاغية؟ هل هذا التعليم وما يتبعه من وظيفة تؤهل لبناء إنسانٍ ومجتمع؟
أسئلة كثيرة تطرحها علينا دراما التعليم السوري، والإجابة حيّةٌ عيانيّةٌ؛ يكفي أن نقول: لماذا يهجر أبناؤنا مدارسهم وجامعاتهم؟ ولماذا يحلمون بالهجرة، ولماذا لا يعنيهم من كلّ التعليم سوى النجاح وفقط؟ ولماذا تراجع تصنيف التعليم في سوريا عالمياً إلى الحضيض! ولماذا انتشرت المعاهد الخاصة والدروس الخصوصية و”ملخّصات النجاح” إلى حدّ طغيانها على المناهج ذاتها.. أليست هذه مؤشرات على انحطاط التعليم في ظلّ الفوضى التي خلقها الطاغية واستثمر بها، ليتربّع على عرشه فوقها.
ينتهي المشهد مع عبارة “يتبع في الجزء الآخر”.. ويبقى السؤال ببراءة لماذا أطفال سوريا يكرهون المدارس والتعليم؟
كلُّ المشاهدين والممثّلين يعرفون الإجابة، ويعرفون أنّهم يكذبون، ويعرفون أنّ مَن يكذب يعلم أنّه كذلك، ويعلمون أنّه كاذب.. لكن تستمرّ المسلسلات، كما في مسرحية فيروز، عليهم أن يستمروا في الكذبة لأنّها الحقيقة الوحيدة التي يعيشونها.
نوقف التصوير على أملٍ بإنتاجٍ ليس للاستهلاك، بل لصنع الحياة كما تليق بالسوريّ.

Exit mobile version