Site icon مجلة طلعنا عالحرية

مرّة أخرى ـ في فهم المحنة السوريّة !

يتحفّظ زيغموند باومن (عالم اجتماع العولمة من أصل بولونيّ انتقل للعيش خارج بلده) على مصطلح ما بعد الحداثة ويُسمّي زمننا الراهن بـ”الحداثة السائلة” توكيدًا على عمليات الجريان اللانهائيّة في المجتمعات البشريّة. جريان المحسوسات من بضائع وبشر وجريان الرمزيات والتمثيلات من أفكار وقيَم ومعاني ومعايير. وهو جريان يتمّ كنتيجة للجريان في العمليّة الاقتصادية التحتيّة. جريان البضائع وسلع السوق الحرّة، جريان خطوط الإنتاج من بلد لبلد والأيدي العاملة والرأسمال عبر البورصات وجريان المصالح على مساحة الكرة الأرضية. كلّها عمليات تتمّ من خلال تراجع مكانة حدود الدول وسياداتها وأنظمة الحماية الوطنية المتعددة المستويات. يُضاف إلى كلّ هذا ثورة الاتصالات، وما تُتيحه من جريان هائل للصور والتمثيلات والمعايير والأفكار، تضغط الزمن والمسافات وتكاد تُلغيها. هذه النقطة بالذات هي التي تستدعي منّا رؤية أخرى للاجتماع البشريّ المؤسّس على قاعدة الدولة الإقليمية/القومية وحدودها واجتماعها، وهو قاعدة يبدو أنها تقادمت وتقوّضت أمام سيول جارية من كل مكان إلى كل مكان.
على الرغم من استمرار إشغال الدولة القُطرية لدورها كوحدة القياس السياسية السياديّة في العلاقات الدولية فإننا حيال تراجع واضح في مكانتها حدّ تحوّلها إلى مساحة أخرى يكتسحها “الجريان” والسيولة. وهي سيولة -إذا واصلنا التشبيه- تلغي الحدود وتُفرغ الدولة من مضمونها بالكامل حتى في حدود ضيّقة لهذا المعنى. فقد تفرغ الدولة من مواطنيها كما في سوريا وتستمرّ في الوجود على الورق وفي أروقة الأمم المتّحدة. أو أن تعجز الدولة عن تأمين التيار الكهربائي والعلاج الطبّي لمواطنيها فتهجّرهم أو تحمي البنوك التي تصادر أملاكهم وأموالهم كما في لبنان. أو أن تعجز الدولة عن فرض سيادتها على كامل أراضيها.. هنا قائمة الدول طويلة جدًا على مدار الكرة الأرضية بما فيها دول عظمى كروسيا أو قويّة كـ”إسرائيل”.
يتفاوت مستوى الجريان من موقع لآخر، لكن من الواضح أن النظام الدوليّ المُعوْلم يفرض هذا الجريان على نحو يعزّز من إحكام الأقوياء من اللاعبين على أعناق المستضعفين منهم. وهو نظام ليس في اللغة الأكاديمية أو في مادتي المكتوبة هذه، إنما شبكة كثيفة متقاطعة من القوى والمصالح. فيها لاعبون غير دولانيين كشركات واحتكارات ومنظمات غير حكومية وأخرى سرّية وحكومات ظلال وأخويّات. وفي رأينا المتواضع أن هذا النظام غير معنيّ بعدد الدول، زيادة أو نقصاناً -وقد زاد منذ انتهاء الحرب الباردة بنحو 60 دولة!- لكنه معنيّ بشكل خاص بمفهوم الدولة ومستوى سيادتها. فقد يجد هذا النظام أنه من المفيد أن تنشأ دولة جديدة هنا وأن تنشق دولة عن أخرى هناك. المهم أن تظلّ هذه الدولة طيّعة وقابلة للجريان ضمن النظام إياه أو فاتحة أبوابها كلّها لجريان النظام داخلها على هواه.
يُمكننا فهم محنة سوريا (ولبنان) ضمن هذا الإطار. يُمكننا أن نرى بقاء الطواغيت فيهما جزءًا من قبول “الممانعين” بالجريان إيّاه خاصة الجريان عبر الدولتيْن الإسميتيْن. فما دام نظام المافيا لآل الأسد يُتيح تقسيم سوريا بين احتلالات خمسة وضمان مصالح هذه الاحتلالات في الإقليم فليبقَ. وما دام حزب الله يتعاون مع لاعبين آخرين ويُتيح الجريان نفسه فليبقَ هو كذلك حتى آخر الدهر!
هذا يعني أن “نظام” المافيا الأسدي ونظام الملالي في لبنان هما جزء من السيولة ولا يزالان محتفظيْن بقدرتهما على مجاراة قوى الدفع التي تفتح قنوات الجريان وتغيّرها وتتبادلها وتضخ فيها السيول. الخطير في الأمر أن الجريان الحالي في العالم ابتعد كثيراً جدّا عن كوابح وضوابط ما بعد الحرب العالمية الثانية (سلسلة من المعاهدات والمواثيق والقوانين الدولية التي تحدّ من استعمال العنف وانتهاك حقوق الإنسان داخل الدول وبينها) ويتجه بقواه وتقاطعات مصالحه بخطى واسعة إلى حريّة منفلتة كنتيجة لانطلاق “السوق الحرّة” ومفاهيمها ومعاييرها كبنية تحتية للأفكار والأعراف والقيم والمعايير. إننا حيال نظام عالمي تتحوّل فيها الدولة (الممسكون على مفاصلها ومؤسساتها ويحتكرون العنف فيها) إلى عصابة أو مافيا تسمى دولًا. لقد باتت الشركات أقوى ألف مرة من الدول. وهي صاحبة القرار ليس في الدول نفسها بل بينها أيضاً. ولا نُبالغ إذا قُلنا إن الموظفين في تسيير مصالح الشركات من خلال عمل اللوبي في البرلمانات -حيث لا تزال تعمل- أقوى من أعضاء البرلمان أنفسهم. والأخيرون أختام مطاطيّة للأوّلين. أو بكلمات أخرى، البرلمانات تغسل باجتماعاتها ولجانها وقراراتها الغايات السوداء لعمليات الجريان.
في بعض الأحيان تؤدي عملية الجريان وغايات استمرارها إلى إلغاء البرلمانات ومُكتسبات الناس (تونس وروسيا وبورما) أو إلى إلغاء الدولة نفسها كما في العراق وسوريا وليبيا والصومال ولبنان. لكن أبشع ما يُمكن هو أن يتمّ توجيه الجريان والسيولة نحو الشعوب وتهجيرها من مواطنها ومساقط رؤوسها. وإذا لم يُهاجروا أو ينزحوا فلا بأس من أن يموتوا تحت أنقاض بيوتهم التي شادوها بتعب سنين. أفهمتم لماذا يبقى نظام المجازر في دمشق ولبنان؟

Exit mobile version