مخيم اليرموك لم يعد مقرا للتنظيمات الفلسطينية السياسية والمسلحة على حد سواء، بل صار مقراً لتنظيمات متطرفة كداعش وغيرها تسعى للسيطرة على جنوب دمشق، ومع ازدياد عدد هذه التنظيمات وازدياد حصار قوات النظام السوري للمخيم تزداد معاناة الفلسطينيين المتمسكين بالبقاء داخل المخيم.
يقول نضال وهو عامل في مطعم في مخيم اليرموك ويبلغ من العمر 21 عاما: “ لم أكن اتخيل يوما أن أعيش في حصار، كنا نسمع دائما عن حصار بيروت وحرب المخيمات، لكن أن أعيش الأمر فهو شيء مختلف، نعاني هنا من انعدام كل شيء، لا طعام ولا شراب ولا أدوية”. ويضيف نضال أن الحياة في مخيم اليرموك أصبحت أشبه بالموت البطيء “ ننتظر الموت، جوعاً أو ذبحاً أو ببراميل النظام، لم تعد طريقة الموت مهمة بالنسبة لسكان المخيم، فالموت قادم قادم، لا يمكننا منعه، كل الطرق هنا تؤدي إلى الموت، إن لم تحاول الحصول على الطعام ستموت جوعاً، وإن حاولت الاقتراب من أطراف المخيم لتحصل على بعض العشب للطعام ستموت برصاصة قناص، وإن حاول فصيل ما أن يدخل إلى اليرموك ستبدأ حملات البراميل والصواريخ، لذلك ننتظر الموت هنا، لن نغادر حتى نموت أيضا في مكان آخر”.
من جانبها تقول أم أحمد 28 عاما، وهي شقيقة نضال وتعيش معه في ذات المنزل :” قدرنا كفلسطينيين أن نعاني من النزوح والموت بشكل دائم، لا أدري لماذا يلاحقنا الموت في كل مكان، الجميع يريد قتلنا، كثير من الفلسطينيين كان يعتقد أن نظام الأسد يدافع عن الفلسطينيين، وأنا منهم حقيقة، لكن انظر إلى النتيجة، حصار كامل على المخيم، حتى الحصول على بعض العشب أصبح ممنوعاً بالنسبة لنا؛ من طرف منطقة حجيرة جنوباً هناك بعض العشب لكن هناك قناصين عملهم منعنا من الوصول إلى ذلك العشب، داعش من طرف آخر، إن حاولت الهروب خارج المخيم سيقطعون رأسك، لأنك تهرب من الجهاد حسب زعمهم.. هل الموت جوعاً جهاد؟”. تقول أم أحمد إن عدد عناصر داعش في المخيم ليس كبيرا لكنهم يسيطرون على مناطق رئيسية في المخيم وعلى بعض المخارج منه، لذلك فإن أي محاولة للفرار ستنتهي بالموت “ ليس عناصر داعش وحدهم من يمنعون المغادرة، قوات حركة فتح الانتفاضة التابعة للنظام السوري وجماعة أحمد جبريل (الجبهة الشعبية – القيادة العامة) أسوأ من داعش، لا يمكنك حتى الاقتراب من مناطق سيطرتهم، ستقتل مباشرة”.
لم تستطع الأمم المتحدة ولا وكالة غوث اللاجئين (أونروا) من إدخال مساعدات إنسانية للمخيم المحاصر منذ ما يقارب العام، دخلت المساعدات مرة أو مرتين حسب قول حازم لكنها لم تكن تكفي أحداً، يقول حازم وهو طالب جامعي في الـ 20 منتسب لحركة الجهاد الإسلامي: “كل ما تحصل عليه في المخيم هو الجوع والإهانة والموت، لا الأمم المتحدة ولا الوكالة ولا السلطة استطاعت أن تفعل شيئا لنا، ماذا قدم لنا محمود عباس؟ لماذا لم يحاول أن يفاوض صديقه الأسد بخصوص المخيم؟ ألسنا فلسطينيين كباقي الفلسطينيين؟؟ لماذا يتم تجاهلنا بالكامل؟ هذه المرة الأولى في حياتي التي أفضل فيها “إسرائيل”، “إسرائيل” تفرض حصاراً على غزة لكنها لا تمنع دخول الطعام والشراب والدواء، لا تمنع حتى دخول مواد البناء، الأسرى لدى “إسرائيل” يخرجون بصحة جيدة وعزيمة عالية لكن السجين في سوريا ربما لا يخرج من السجن”.
يضيف حازم أن الأمراض التي انتشرت في المخيم انقرضت من العالم منذ سنوات طويلة : “ كوليرا وملاريا، هل نحن في إفريقيا؟! والأسوأ هو الطاعون، في أي قرن نعيش حتى نصاب بالطاعون؟! لا أدري كيف سينتهي حال هذا المخيم، لكني أصبحت متيقناً أننا لن نخرج منه أحياء، مخيم اليرموك الذي كان يضج بالحياة أصبح مرتعاً للموت المتنقل، أمي دائما تقول إن الموت لم يمل منا بعد ويبدو أنها على حق”.
لم يعد سكان اليرموك قادرين على التحمل، فالأمراض التي انتشرت في المخيم والمجاعة التي تسيطر على سكان المخيم بلغت درجات غير إنسانية، يقول الدكتور عامر 42 عاما، وهو طبيب في مشفى حلاوة في المخيم : “ لم أر في حياتي شيئاً كهذا، لا أعلم كيف يمكن لإنسان أن يتناول يومياً بضع رشات من الفلفل الأسود كطعام ليوم كامل، سكان المخيم اليوم هم عبارة عن أشباح لا أكثر، لو نظرت الى أجسامهم ووجوههم سترى الموت يسكن فيها ولا يغادرها، سواء الأطفال أو البالغين، يوم أمس زارتني سيدة مع رضيع مصاب بألم شديد في البطن لأنها أرضعته ملح وفلفل أسود مع ماء وليس حليب! الحليب مادة نادرة جداً، المخيم يموت بكل أشكال الموت البطيء والسريع، والأحياء المجاورة المؤيدة للنظام تمتلك كل ما تحتاجه، لكن النظام والتنظيمات المتطرفة والفصائل المؤيدة للنظام والسلطة الفلسطينية اتفقت على حصار المخيم، اتفقت على موت الفلسطينيين جوعاً وعطشاً ورعباً وذبحاً حتى في دول الشتات، حتى لو أردنا الفرار فلا مكان نهرب إليه، هذه هي حالنا: الموت من كل الجهات”.
لم يعد شارعا لوبية والثلاثين في مخيم اليرموك شارعا الحياة التي لا تنتهي، فالشارعان اللذان اعتاد السكان صخبهما وضجيج أسواقهما، أصبحا اليوم عبارة عن ركام ودمار وجوع، لم تعد سينما النجوم في مخيم اليرموك صالة لحضور الأفلام، بل صارت رعباً ورؤوساً مقطوعة!
عمر العبد الله، من مواليد دير الزور 1985، مراسل صحفي في تركيا، مدرب ومدير برنامج تعزيز مهارات الحوكمة للمجالس المحلية السورية في مركز تطوير الادارة المدنية السورية في غازي عينتاب تركيا.