مجلة طلعنا عالحرية

محنة المبدعين مع الطّغاة

ياسمين نهار

ين تجرّأ بروميثيوس على سرقة النّار، رأفةً بالبشر وإيماناً بقدرتهم على الإبداع وصنع الحضارة، هل كان يعلم أنّ في “رسالة الصّحابة” لعبد الله بن المقفّع جذوةً من ناره؟
ابن المقفّع أراد الخير للنّاس فنصح الخليفة بحُسن سياستهم، ولأنّه تجرّأ على النّصح والوعظ ولم يقدم على التّعظيم والمدح عُوقِب بتقطيع جسده ورميه في التّنور ليحترق جسده بنار من نصّب نفسه خليفة الله على الأرض.
هل كان بروميثيوس يعلم أنّ ناره ستجذب عبد الرّحمن الكواكبي بسحرها ليأخذ منها قبساً يكشف من خلاله أخطار الاستبداد السّياسيّ على الشّعوب في كتابه “طبائع الاستبداد”؟ ألم يقل لنا ذات يوم: “الأمّة التي لا يشعر كلّها أو أكثرها بآلام الاستبداد لا تستحقّ الحريّة”؛ فقد كان الكواكبي توّاقاً إلى الحريّة، كرّس حياته وفكره لمحاربة الاستبداد، ولكنّ شعلة الحريّة التي حمل لواءها أخافت المستبدين ودفعتهم لاغتيال صاحبها.
مات الكواكبي لكنّ شعلته مازالت تنير درب السّائرين في دروب الحريّة الوعرة المحفوفة بالمخاطر، تلهمهم حيناً، وتدفعهم حيناً آخر.
هل كان بروميثيوس يعلم أنّ طه حسين تجرّأ على سرقة النّار مثله حين نبش التّراث وشكّ في صحّة رواية الشّعر الجاهليّ وحقيقة تدوينه في كتابه “في الشّعر الجاهليّ”، وتولّى الذين نصّبوا أنفسهم أولياء الله على الأرض تكفيره ومحاكمته؟
طه حسين مبدع رفض الغرب الاستهلاكيّ، وانفتح على الغرب الحضاريّ والفكريّ بعيداً عن “مركّبات النّقص” على حدّ تعبيره. لذلك لم يعد من الغريب أن يقول: “لقد أنصفني أناس شاركوني عشق الثّقافة واحترام العقل ولم أشاركهم أصالة المنبت ولا زرقة الدّم. ووقف ضدي أناس أشاركهم كلّ شيء فيما عدا التّخلّف وتملّق غرائز الغوغاء”.
هؤلاء وغيرهم من المبدعين، سارقي النّار، مازال النّسر ينهش كبدهم إلى يومنا هذا، لأنّهم تجرّؤوا على طرح الأسئلة، وأقلقوا المؤسسات الثّقافية والدينيّة التي اعتادت تقديم الأجوبة الجاهزة.
وفي ضوء ذلك يحقّ لنا أن نتساءل: هل يستطيع المبدع العربيّ أن يعبّر عن أفكاره ورؤاه بينما تزداد الهوّة اتساعاً يوماً بعد يوم بين التّنظير للمساواة والعدل والحريّة، وبين واقع تضيق فيه فرص الإفصاح ويُقمَع كلّ صوت يغرّد خارج السّرب على مبدأ (من ليس معنا فهو ضدّنا).
من المؤكّد أنّ الإنسان يمتاز عن سائر المخلوقات بالقدرة على إنتاج الفنون والاستمتاع بها، هذه القيمة الجماليّة التذوّقيّة توحّد البشر جميعاً تحت قبّة الفنّ، بعيداً عن القوميّات والإثنيات والأعراق المختلفة؛ أي هي مجال للتواصل الخلّاق مع الآخر إبداعاً وتلقيّاً. وغير خافٍ على أحد أنّ التّواصل الخلّاق مع الآخر لا يتمّ إلّا في مُناخات الحريّة.
حين يضع المبدع رؤاه وأفكاره وخلاصة تجربته في شكل معيّن قد يكون لوحة أو قصيدة أو عرضاً مسرحيّاً.. يحتاج إلى الحريّة وإلى الفكر المستقلّ بعيداً عن التّسييس والأيديولوجيا. وفي ظلّ ثقافة تعاني منذ خمسة عشر قرناً من القيود الاجتماعيّة والدّينيّة والسّياسيّة، تُحرَم الأمّة من تشكيل هويّة ثقافيّة متميّزة عن الآخرين.
وإذا ما استثنينا بعض الأصوات الفرديّة التي تجرّأت على المواجهة والخروج عن الأطر الجاهزة، نجد أنّ الهويّة الثقافيّة العربيّة -غالباً- إمّا هويّة ماضويّة؛ لم تخرج عن الموروث ولم تقرأه قراءة جيدة، أو هويّة تعتمد تقليد الآخر (الغربيّ) تقليداً سطحيّاً أعمى.
هذه الحالة من تشتت الهويّة تقودنا إلى التّساؤل عن علاقة المبدع بالسّلطة، وهل تستطيع المؤسسات الثّقافيّة العربيّة (المؤدلجة) أن تستخدم الإبداعيّ الجماليّ من أجل تمرير رسائلها وخداع الشّعوب المقهورة؟
قد يكون من المفيد الإشارة إلى أنّ الإبداع الحقيقيّ في حالة تناقض مع كلّ ما هو مؤسسيّ في الثّقافة والدّين والسّياسة، بل إنّني أذهب إلى القول بأنّ المبدع في صراع دائم مع الأوصياء على كلّ ما هو ثابت.
ليس غريباً إذاً أن تكون العلاقة ضدّيّة بين أنظمة تعيق تأسيس أيّ حركات سياسيّة أو اجتماعيّة أو ثقافيّة، لأنّها تخشى النّقد والرّأي الآخر، وبين فئة -وإن كانت تمثّل الأقليّة- من الشّعراء والكتّاب والفنّانين.. وقد وضعت الأنظمة الاستبداديّة هؤلاء المبدعين بين خيارين؛ الخيار الأوّل: الانسحاب والعزلة والخضوع، والخيار الثّاني: التمرّد والرّفض والثّورة. ولا تخفى على أحد النّتائج الكارثيّة للخيار الثّاني، بدءاً من التّهميش والملاحقة، وانتهاءً بالاعتقال أو الاغتيال.
لذلك لم يعد من المستهجن أن يلجأ المبدع إلى الحذف أو المواربة في نقد الواقع خوفاً من عواقب المواجهة، وقد يلجأ المبدع إلى الرّمز أحياناً أخرى -رغم أهميّة الرّمز في خلق مناخ إيحائيّ شعريّ- من أجل تمويه مواقفه خوفاً من الرّقابة ومَن يقوم بتوظيفها.
ومن المهمّ الإشارة إلى أنّ المبدع يحتاج إلى التّحرّر من الرّقيب الدّاخليّ والرّقيب الخارجيّ ليطلق طاقاته الحبيسة، وهذا لن يتمّ إلّا في مُناخات الحريّة.
ولاشكّ أنّ الشّعوب التي تربّت في أطر الشّموليّة تحتاج نضالاً مديداً لتتخلّص من النّظم الشموليّة وتدخل زمن التّعدّد والاختلاف وحريّة التّفكير والتّعبير.
صحيح أنّ للسّلطة أتباعها من أنصاف الموهوبين والانتهازيين الذين يعملون على تبرير سياساتها، وتجميل ما تقوم به من قتل وتدمير واضطهاد عن طريق الكذب والخداع والتّضليل، لكن في الطّرف المقابل المبدعون، سارقو النّار، حاملو مشاعل اللّاءات، هم الذين اتّخذوا موقف المعارضة والتّمرّد والرّفض، أو موقف المسافة من السّلطة، والمساءلة الدّائمة في حياتهم وفي أعمالهم الإبداعيّة.

Exit mobile version