يقتضي القانون تحقيق العدالة محققاً جوهرها في الإنصاف الشخصي للمجني عليه، وتعميم العدل بين الناس مجتمعياً. العدالة لا تماثل الإنصاف؛ فالعدل يحتوي الإنصاف كإحدى أجزائه ومكوناته، ولا تكتمل بتحقيقه منفرداً. فالإنصاف يتمثل ببعده الشخصي والفردي، بينما تقيم العدالة مفهومها العام بالحق المجتمعي، وانعكاساته الإيجابية على المجتمع برمته. وحينها يقال العدل سيد بين الناس.
لم يعد ما هو مستغرب في المسائل السورية بعمومها، حيث باتت كل قضية فيها محط خلاف مدوٍ، سريعاً ما ينتقل لبعد سياسي أكثر حمولة من القضية نفسها، لا وبل يحرفها عن مسارها.
وقضية محاكمة كوبلنز المشهورة باسم المحكمة الألمانية التي أتاحت لها القوانين الألمانية الخاصة بإمكانية إقامة الدعوى القضائية بحق ضابط سوري قدمت فيه مذكرات الادعاء والشهود بارتكابه جرائم ضدّ الإنسانية، تسببت في إحداث حالات موت وتعذيب وحرمان من الحرية بدون وجه قضائي، والقيام بجرم الاغتصاب والإكراه الجنسي، أثناء ممارسة عمله كضابط سوري في الفرع 251 التابع للأمن العام السوري خلال الفترة من نيسان 2011 الى أن قرر ترك عمله أواسط العام 2012 وتوجهه بعدها بطريقة سرية للأردن ثم إلى ألمانيا ليقيم فيها لاجئاً.
الدعوى القضائية بادر بها فريق من الحقوقيين السوريين، وفي مقدمتهم المحامي أنور البني المشهور له بعمقه الوطني ودفاعه الطويل عن حرية الرأي والمعتقلين السوريين، والمعتقل لأكثر من مرة في السجون السورية بسبب مواقفه تلك، والذي قدم إفاداته وأدلته بأن الضابط أنور رسلان، محط الدعوى القضائية، كان قد أشرف على اعتقاله وتعذيبه سابقاً، كما قدمت الأدلة والبراهين بما يصل لـ 27 ادعاء وشهادة في مواضيع التهم الموجهة ضد رسلان، جعلت المحكمة بعد طول جلساتها تحكم بالسجن المؤبد عليه، والذي أتى في نص قرارها إدانة واضحة لجهاز الأمن السوري الذي ينتمي إليه رسلان، بهجومه الكمي على المتظاهرين السلمين السوريين، والكيفي من حيث منعهم من حق التظاهر والاحتجاج السلمي بإطلاق النار عليهم واحتجازهم دون مذكرات قضائية، ما أدى إلى تعذيبهم، وقتل الكثير منهم في أقبية المخابرات. وكون رسلان عضواً في هذا الجهاز، ويمارس عمله الوظيفي فيه، ومع أنه “لم يقم بتنفيذ الجرائم بنفسه بصورة شخصية، إلا أن هذه الجرائم يجب أن تتم نسبتها إليه بناء على ما كان لديه من سلطة التقرير وإصدار الأوامر” (مقتبسة من ترجمة نص قرار المحكمة).
ما إن صدر القرار حتى طفى على السطح السياسي موقفان سوريان متنازعان بحدة: الأول بأن الضابط كان مُجبراً على ما كان يقوم به أثناء عمله، وقد أعلن انشقاقه ما إن أتيح له هذا، وليت هذا الموقف توقف هنا، لتمت مناقشة قضية رسلان بين العدالة والإنصاف! لكن تناولت المواقف المحامي البني بأنه طائفي لانتمائه المسيحي! وأن الضابط سنيّ بالأساس، ويا لسخف ما وصلنا إليه من درك في التقسيم والتشرذم؛ فالبني أثبت طوال تاريخه أنه رجل وطني، وأنه يدافع عن السوري كسوري قبل أي انتماء له. وفي الجهة المقابلة، الضابط ذاته لم يكن بإمكانه إلا أن ينفذ الأوامر، وإلا تمت تصفيته بتهمة التفكير بالانشقاق، والتعاطف مع المتظاهرين، وفعلياً حين أتيحت له الفرصة ترك شغله، واختار اللجوء، ومع هذا فإنه غير بريء مما فعله سابقاً.
في الموقف الآخر برز التيار العلماني مدافعاً عن البني وموجهاً سهام نقده للتيار الإسلامي مرة أخرى ويحملّه كل مآسي السوري في فشل ثورتهم وتحويلها إلى مقتلة كبرى، ودور هذا الضابط وأمثاله في الجرائم المرتكبة بحق السوريين. ويا لمأساتنا التي لم تنتهِ من الفرضيات لليوم!
وتعاد الكرة من جديد، يعاد طفو الانقسام الحاد بين تياري الأسلمة والعلمنة، وتتصاعد لغة التخوين المتبادلة بين الطرفين، وكأن انتصار أحدهما سينقذ باقي المعتقلين وسيحرر سوريا من بين براثن الأجهزة الأمنية وسلطة الاستبداد القائمة فيها. ولربما كان المعيق في انتصار الثورة هم العلمانيون الرومانسيون! يردد الإسلاميون. فيما تكر سبحة العلمنة أن الأسلمة والإسلاميون من خطفوا راية الثورة وساهموا في سحقها، وكأن الثورة كانت ستنتصر بالشعارات والمظاهرات السلمية، الموقف الذي حسمته السلطة مبكراً باتخاذها الحل العسكري الأمني في التعامل مع المتظاهرين والاحتجاجات السلمية، وكل الأدلة لليوم تشير لهذا، خاصة بعد تفجير خلية الأزمة السورية، وضرب مبادرة الجامعة العربية منتصف العام 2012، وتدويل المسألة السورية لتصبح موضع صراع دموي دولي كبير، وللأسف بأيدي السوريين أنفسهم.
بالعودة لكوبلنز، يمكن القول بجدية إنها أنصفت شخصياً بلا شك أهالي المعتقلين والمعتقلات وضحاياهم في تلك الفترة التي كان فيها رسلان ضابطاً ومسؤولاً، لكن المحاكمة بذاتها لا ترتقي لبوابة العدالة، والتي لم يتحقق منها سوى الجانب الشخصي في الإنصاف، بينما الجانب العمومي المتعلق بالمجتمع لليوم لم يتقدم خطوة بعد، وهذا ما يجب أن يناقشه السوريون اليوم وكل يوم: كيف يمكن أن تتحقق العدالة في بعد مجتمعي، ما لم تتحقق الدولة وسيادة القانون؟ تلك التي أتاحت لألمانيا محاكمة رسلان، بينما لليوم لازالت سوريا بكل سورييها رهينة الاستبداد وتقاسم النفوذ العالمي والسطوة العسكرية وقوة الأمر الواقع؟ والسؤال الأهم كيف يمكن أن نخطو باتجاه العدالة الفعلية ما دام أصحاب المظالم أنفسهم يظلمون بعضهم البعض، ويصرون على تسييس كل قضاياهم بطريقة استقطابية متنافرة بين أسلمة وعلمنة، بينما تقتضي العدالة وسيادة القانون الهوية الوطنية أولاً قبل انقساماتها الأيديولوجية تلك، والتي تصر على تهشيم الإصرار الحقوقي على الإنصاف من جهة، وتهشيم حتى المواقف الجريئة لمن قرر ترك النظام.
حققت كوبلنز الإنصاف لعدد من السوريين في ألمانيا، وليت السوريين ينصفون بعضهم حين يحققون العدالة والإنصاف بآن لبعضهم! لربما اُتّهم بالمثالية بهذا الموقف، لكني متيقن ما لم نتجاوز حدودنا الشخصية في الإنصاف الذاتي وحسب، ونعترف بأخطائنا الفردية السابقة واللاحقة، ونتقبل مسؤوليتنا عنها قضائياً وأخلاقياً، فإننا لن نخطو خطوة واحدة في إقامة العدل وسواده بين الناس بديلاً عن السياسة والتحزب والتسلط التي لا زالت تضيع مفهوم العدالة من جذره وتخلطه بين الأهواء والأيديولوجيات، ولسان حال الأعرابي يكرر من شدة ضحالتنا السياسية هذه: لم أمت ولكني رأيت الموت مراراً..