افتتاحية العدد بقلم هيثم الحموي
صرت على قناعة بأنه صار من المستحيل منذ منتصف عام 2011 أن أفرح لأي حدث متعلق بسوريا كبيراً كان أو صغيراً، وحتى لو سمعت بسقوط الأسد أو مصرعه الآن فلسوف أجد في نفسي مئة سبب يمنعني من الفرح بذلك الخبر، فضلاً عن أن استبشر به خيراً!
ليس السبب في ذلك أنني إنسان (نكدي) ولا أعرف كيف أرى النصف الملآن كما يقولون، بل لأن معظم الأحداث التي مرت علينا كان طعم تناقضاتها مريراً جداً لا يبتلعه عاقل إلا مرغماً.
ماذا كان شعوري عندما كانت بعض المناطق تتحرر (أو تسقط كما يحب كل شخص أن يسميها) على أيدي جبهة النصرة في الشمال؟ هل أفرح لخروجها من أيدي عصابة الأسد؟ أم أحزن لسقوطها في أيدي مجموعات جديدة ستمارس التسلط على المجتمع من جديد؟
ماذا كان شعوري عندما سمعت بتفجير خلية الأزمة؟ هل أفرح بمقتل هؤلاء المجرمين، أم أنتظر ببرود لأعرف ما وراء الأكَمة، ومن قَتل من في ذلك التفجير؟
ماذا كان شعوري عندما سمعت بدخول القوات التركية لمنطقة الشمال السوري؟ هل أفرح لأن دخولهم سيخفف القصف الأسدي والروسي على تلك المناطق، بل وربما خروجها نهائياً غير مأسوف عليها من سيادة النظام السوري التي لم تجلب عليها إلا الموت والدمار، أم أحزن لمعرفتي بما سيُؤدي إليه دخول الأتراك من ظلم يطال الكرد في تلك المنطقة؟
هل أفرح عندما أسمع بالاستقرار النسبي في أماكن السيادة الكردية؟ أم أحزن لأن هذا الاستقرار كان أيضاً على حساب حقوق سكان المنطقة وخاصة العرب منهم؟ ناهيك عن الوجود الأمريكي والأوربي الذي لن يوفر مورداً إلا ابتزه.
الأنكى من كل ذلك أن بعض الأحداث المؤلمة في الثورة السورية كانت تعطيني شعوراً إيجابياً غريباً.. هل أنكر أنني شعرت بنوع من التفاؤل عندما علمت باستخدام النظام السوري للسلاح الكيماوي ضدّ أهلنا في الغوطة! لأملي الغبي بأن يقود ذلك إلى ردع دولي عسكري للنظام السوري؟
بل ماذا كان شعوري عندما سمعت بتسليم شهادات الوفاة لكثير من المعتقلين؟ هل حزنت على استشهادهم وفراقهم في هذه الحياة الدنيا، أم ارتحت لعلمي أنهم لم يعيشوا كل تلك السنوات تحت التعذيب الوحشي المستمر، وأنهم لن يعيشوا سنوات مديدة أخرى دون أي أمل في تحريرهم قريباً من أيدي جلاديهم.
لا أعرف إن كنت قد استطعت بذكر هذه الأمثلة توضيح عجزي عن السعادة لسماع أي خبر عن سوريا! بل بالأصحّ: لماذا أشعر بشعور “التنميل” الذي عندما يصيب رجلك يتركك محتاراً، هل تثني قدمك أم تمدها، هل تفركها أم تتركها دون لمس؟! كنت أحس دوماً أن كل الأخبار ملغومة، وأنه من الاستحالة أن يأتي أمر جيد علينا نحن السوريين.
لم أحزن أبداً لمحاكمة أنور رسلان ولا لتلقيه حكماً بالسجن المؤبد، لأنه بنظري لم يعتذر، ومن لا يعتذر لا يستحق المغفرة، لذلك لم أكترث أبداً لحاله، كما لم أكترث من قبل لمحاكمة صدام حسين لأنه لم يعتذر. لكن هل أستطيع أن أفرح؟ هذا هو السؤال الصعب! فيالسخرية القدر، عندما يكون أول من يحاكم من كبار ضباط المخابرات السورية ضابطاً منشقاً! وفي الوقت الذي يحاكم فيه هذا الضابط، تفكر دول العالم بما فيها أمريكا في كيفية إعادة تأهيل الأسد، أو على الأقل كيف يمكنها ألا تكترث لبقائه عشرين سنة أخرى على رقاب السوريين. هل حقاً أستطيع أن أفرح لحكم يطال ضابطاً مجرماً، فيما يتم في الوقت نفسه التغاضي عن هروب رفعت الأسد إلى سوريا بعد أن عاش حياته في أوروبا متنعماً بأموال السوريين!
وحتى لو حاولت قليلاً إسكات آلام هذه التناقضات، والشعور بنوع من الهناء لنيل مجرم عقابه المستحق، تأتي مواقف السوريين من هذه الأحداث لتبخر آخر أحلامي بهذا الهناء. فكمية الإشادة بهذا الحكم أشعرتني بأنه قد تم الإفراج بعده ولو عن معتقل واحد، وأن دول العالم قررت إيقاف هذه المجزرة المستمرة لأكثر من عقد، وأننا قد بتنا قاب قوسين أو أدنى من فتح قصر المهاجرين.
بالمقابل فإن الذين هاجموا هذه المحاكمة ونتائجها لم يقدموا أي بديل، فهل نتوقف عن ملاحقة المجرمين الصغار لأننا لن نستطيع في هذه المرحلة الوصول إلى المجرمين الكبار؟ وهل نستسلم للعدمية التي مهدتُ لها في أمثلتي السابقة ربما عن غير قصد؟ وحتى الذين أعطوا الأمر حجمه الحقيقي وأشادوا بنتيجة المحكمة دون مبالغة لم يسلموا من شخصنة القضية، واستثمارها فرصة للتهجم على بعض منافسيهم، الذين قاموا حسب زعمهم (وقد يكون صحيحاً) بأخطاء كارثية خلال المحاكمة.
قالتها العرب قديماً: شر البلية ما يضحك، وكم مر علينا من المضحكات المبكيات في السنوات العشر الأخيرة. لكن أي بلية أشر من بلية تربك الإحساس، وتحبس الدموع في المحاجر، وتحذّر البسمات من أن ترتسم على وجوهٍ قد تعبت من الخذلان.
مجلة مستقلة، تعنى بشؤون الثورة السورية، نصف شهرية، تطبع وتوزع داخل سوريا وفي عدد من مخيمات اللجوء والتجمعات السورية في الخارج