قد يجمع الكثيرون على أن مؤتمر فيينا الأخير في 30 تشرين الأول شكل نقلة نوعية في مسار الثورة عموماً، وفي خطوات البحث عن حلّ للصراع في سورية بشكل سياسي خصوصاً؛ فمؤتمر فيينا شكّل أرضية أساسية التقت حولها الدول الفاعلة الرئيسية في الموضوع السوري، سواء كانت من الدول الداعمة للثورة أو من الدول الداعمة للنظام. ومع أن هذه الدول لم تستطع جسر الهوّة بين خلافاتها بشكل كامل، إلا أنه كان واضحاً أن نقاط الالتقاء -وإن أتت بالعموم- لكنها طرحت تغليب مفهوم الدولة على جميع المفاهيم الأخرى، وخاصة لجهة الإبقاء على سورية (التي نعرفها) وليس أي سورية أخرى.. ولكن مع قبول بتغير طبيعة نظام الحكم، أو بالحد الأدنى بشكله أو أشخاصه. وعلى كلِّ ليس هذا إطار ما نسلط الضوء عليه هنا، بل بالضبط ما تمّ ذكره في الفقرة ما قبل الأخيرة والمتضمنة ما يلي: “المشاركون في المؤتمر ومعهم الأمم المتحدة سيدرسون ترتيبات وقف إطلاق النار بكل أنحاء البلاد، يبدأ في تاريخ محدّد وبالتوازي مع العملية السياسية الجديدة”.
فمن خلال القراءة الأولية يظهر للمتابع أن عملية وقف إطلاق النار قد تمّ حسمها، وأنها مسألة وقت وإجراءات ليس أكثر. ولم تمضِ أيام حتى بدأت تنتشر في الغوطة الشرقية -ولدى بعض الدوائر الضيقة من النخب المعنية بالشأن العام- أقاويل حول مبادرة لوقف إطلاق النار تخصّ الغوطة الشرقية، ولا يخفى على أحد ما عانته الغوطة الشرقية من ويلات خلال عمر الثورة تعجز هذه السطور عن ذكرها.
وبعد بضعة أيام بدأت ملامح هذه الخطوة تظهر أكثر وضوحاً، ليتبين ما يلي:
المبادرة هي روسية الطرح، ولم تطرح مباشرة على شخصيات من الغوطة، وإنما على سوريين موجودين خارج سورية، وهو عرض غير مكتوب ولا رسمي يتضمن نقاطاً رئيسية وهي: وقف إطلاق النار لمدة خمسة عشر يوماً، وإدخال المواد الغذائية والطبية، وخروج الجرحى للعلاج. وطبعاً هذا العرض لم يبقَ طيّ الكتمان بل انتشر على جميع المستويات في الغوطة الشرقية من القيادات إلى النخب إلى رجل الشارع العادي. ومما خلق بعداً إضافياً هو تبني بعض وسائل الإعلام سواء المحسوبة على الثورة أو النظام لهذه الرواية. مضافاً إلى ذلك توفر المواد الغذائية بشكل كبير في أسواق الغوطة الشرقية، والذي اعتبر أكبر دليل على وجود مثل هكذا اتفاق، وهو ما رفع من معنويات المواطن العادي بأن حدّة الصراع ستخفّ. وفي كل يوم ينتظر هذا المواطن أن يمرّ اليوم دون قصف ليفاجأ بأن القصف على حاله وأنه لا وجود لجديد غير ما اعتاده، وهو ما خلق حالة من التخبط العام في الغوطة ظهرت في عديد من مظاهر الحياة سواء كانت العسكرية أو الاقتصادية أو الخدمية. ومردّ كل ذلك أساسا لغياب أي جهة أو مرجعية سياسية تقارب مثل هكذا طرح على نحو واعٍ سياسياً. وطبعاً، وكعادتنا عموماً في الثورة، فنحن لا ننتج أجسامنا التي نحن أصلاً مقتنعون بها وبضرورتها إلاّ تحت ضغط الحاجة، ولذلك تمّ العمل على تشكيل هيئة سياسية للغوطة الشرقية منتخبة من الهيئة العامة للغوطة. وإن كانت هذه الخطوة هي خطوة رئيسية في الطريق السليم، ولكن يجب أن لا يغيب عن ذهننا أمر مهم جداً هو أن العمل السياسي لا ينحصر فقط في العمل الدبلوماسي والمفاوضات أو الإجابة على المبادرات، بل إنه أعمق وأخطر من ذلك ويتضمن أساساً صناعة الوقائع والأحداث لكسب الرهانات وتحقيق المصالح.
إن ما تمّ نقله على أنه مبادرة روسية لوقف إطلاق النار، أثبتت الوقائع على الأرض أنه لم يكن أكثر من بالون اختبار أوقعنا في مطبّات وفخاخ عديدة، وذلك يعود أساساً لعدم وجود الرؤية السياسية الواضحة القادرة على مقاربة هذه الأمور من زاوية إعلاء المصالح ودفع الأضرار؛ فقد لا يختلف الكثيرون على حاجة المواطن العادي لتخفيف حدة الصراع الذي يعيشه، ولكن هل يتم التفاوض على وقف إطلاق النار للغوطة الشرقية فقط؟ وهل يتمّ التفاوض مع روسيا وتناسي باقي الدول الداعمة للثورة؟ وإذا ما تم إيقاف النار في الغوطة الشرقية ألن يستفرد النظام بمناطق أخرى كداريا وغيرها؟ هل يوجد أي ضامن بأن النظام لن ينتهك الاتفاق؟ لماذا تطرح المبادرة الآن علماً أن مؤتمر فيينا أوضح أن وقف إطلاق النار العام لكل سورية سوف يطرح مع بداية العام؟ ألن يحسب هذا الأمر كورقة قوة لروسيا خصوصاً، وأنها القادرة على حلّ الصراع في سورية؟ أليس الظهور بمظهر الموافق سلفاً على مثل هذا الأمر يعطي رسالة ضعف عن الغوطة عموماً؟!
إن ما طرح عن مبادرة وقف إطلاق النار في الغوطة كانت له نتائج سلبية عديدة يجب العمل على تلافيها في المرات القادمة، ولكن كان له أيضاً عدد من الإيجابيات، ولعلّ أهمها تحريك المياه الراكدة في مستنقع التعنت برفض الحلول السياسية. فقد ظهر أن العديد من الجهات والفصائل يحمل مقاربة عقلانية للأمور يمكن البناء عليها وفق رؤية مستقبلية لحلحلة الصراع في سورية. الأمر الأخر هو ولادة الهيئة السياسية في الغوطة الشرقية، ولكن هذه الخطوة يجب أن يرافقها وجود رؤية سياسية واضحة وبمرتكزات سياسية مبنية وفق مشروع سياسي وطني جامع؛ فيجب علينا أن ندرك جميعاً أن الغوطة الشرقية ليست جزيرة منعزلة عن محيطها، وبأنها جزء أساسي من سورية، وأن الحاجة أصبحت أكثر إلحاحاً لطرح المبادرات التوحّدية على المستوى السياسي والعسكري، لنستطيع معاً مجابهة الاستحقاق السياسي الذي أفرزه مؤتمر فيينا. وإلا فإن القطار قد يفوتنا كما فاتنا عدة مرات خلال عمر الثورة.
كاتب وصحفي من داخل الغوطة الشرقية – ريف دمشق