يعدّ مالك بن نبي واحداً من أهم رواد النهضة في القرن العشرين. وبن نبي، كما هو معلوم، مفكر جزائري عاش في الفترة ما بين (1905 ــ 1973م). أنتج خلالها مؤلفات هامة يزيد عددها عن العشرين كتاباً، لم تأخذ حظّها من الاهتمام والنقد في زمانه. وقد عزا بعضهم قلّة الاهتمام بمؤلفاته في السابق لعوامل عديدة، منها: الطبيعة النخبوية لكتاباته، واستعماله اللغة الفرنسية في بداية حياته قبل انتقاله إلى مصر في العام 1956، وبها كتب أهم مؤلفاته. والمرجّح أيضاً أنّ لصعوبة إخضاع فكره لتصنيف أيديولوجي علاقة وثيقة بالتهميش الذي تعرّض له؛ فلقد كان من الصعب على اليساريين قبول بعض الإحالات القرآنية عند مالك، وكان من الصعب على الإسلاميين قبول كلام موضوعي حول مشكلات العالم الإسلامي، أو ذكر إيجابيات الحضارة الغربية، أو الكلام عن “قابلية للاستعمار” تعاني منها المجتمعات الإسلامية التي تقاوم المستعمِر.
وقع بن نبي، إذاً، في ذلك الحدّ الفاصل بين الإسلاميين وخصومهم، وهو فاصل يخضع الواقع فيه إلى التهميش من قبل الطرفين، كما قد يتلقّى الضربات من الجهتين أيضاً. في مشرق تستهلكه صراعات الأيديولوجيا، وتشغل حياته، ولا ينشغل إلا قليلاً جداً بسؤال النهضة… وأضيف على ذلك أنّ مالكاً كان يقول الحقيقة كاملة، في وقت كانت فيه الحقائق مزعجة، وفي عالم ما يزال كلّ طرف فيه يبحث عن حقيقة جزئية، مجتزأة، تثبت صوابيّة مواقفه وآرائه.
انشغل بن نبي بالبحث في مشكلات الحضارة، وصبّ القسم الأكبر من جهوده على فهم وتحليل مشكلات الحضارة الإسلامية، ومن ثمّ كيفية تسخير هذا التحليل لوضع شروط نهضة الأمّة في مرحلة ما بعد الاستعمار الغربي. ورأى مبكراً أنّ حضارتنا منذ مرحلة ما بعد الموحّدين فقدت إبداعها واستسلمت لغرائزها، وخرجت من دورة الحضارة بعد أن خرجت من عالم الأفكار وباتت معلّقة بعالم الأشخاص والأشياء.
نحت بن نبي مصطلحاً شديد الأهمية والخصوصية، أسماه “القابلية للاستعمار”، وقصد به مجموعة العوامل والمقومات الذاتية التي تمتلكها كثير من المجتمعات، مما يجعلها عرضة للاستعمار، أو تابعة له حتى بعد تحرّرها الشكلي منه. ومن خلال المصطلح، أعمل مالك أدواته تنقيباً عن مشاكل المجتمعات الإسلامية، وفي عوامل ضعفها وتفتتها، وفي شروط نهضتها وعودتها إلى الموقع الفاعل في الحضارة الإنسانية.
لم يقتصر بن نبي في بحثه على العوامل الذاتية للانحدار، أو النهوض؛ فعوامل الضعف الذاتية ما هي إلّا جزء من حقيقة الواقع الذي نعيشه. وعند تفكيك مشكلة الاستعمار والتبعيّة فنحن هنا أمام ظاهرة إنسانية مختلطة، ينبغي تناولها من كامل جوانبها، وإلّا كان الأمر أشبه بالتعمية عن عوامل فاعلة في تشكيل الظاهرة، ومسؤولة عن ظاهرة الاستعمار، بقدر مسؤولية الطرف الضعيف القابل للاستعمار. تناول مالك في تحليله، إذاً، العاملين الداخلي والخارجي بشكل متوازن؛ فحمّل المستعمَرين مسؤوليتهم، ولم يفرّط في مسؤولية المستعمِر الغربي ودوره في إضعاف الشعوب، وتحويلها إلى كائنات مغلوبة على أمرها.
في الجزء الأول من كتابه “وجهة العالم الإسلامي” قدّم بن نبي تحليلاً لمفهوم وعوامل القابلية للاستعمار. وفي كتاب “شروط النهضة” قدّم الوسائل الضرورية للخلاص من القابلية للاستعمار..
أمّا في كتابه “المسألة اليهوديّة”، وهو الجزء الثاني من “وجهة العالم الإسلامي”، والذي كتب في العام 1952 إبّان الحرب العالمية الثانية، ونُشر في العام 2012، أي بعد ستين عاماً من كتابته! فقد وضع بن نبي يده مبكراً على مشكلة الحضارة الغربية، محاولاً أن يفسر لغز المسألة اليهودية ودورها في بناء العالم الأوروبي، وفي ظاهرة الاستعمار، والتي ستبقى ملازمة لهذا العالم خلال القرن العشرين، معيقة كل صحوة يستبشر بها العالم القابل للاستعمار.
حين كتب كتاب “المسألة اليهودية” لم يكن الخوض في مسألة كهذه قد أصبح من المحرّمات بعد، ولم يكن الحديث عن مسؤولية اليهود قد أصبح جريمة يعاقب عليها القانون بتهمة “معاداة الساميّة”، فجاء الكتاب صريحاً ومباشراً في تفكيك القضية اليهودية ودورها في بناء العصر الحديث، ونشوء ظاهرة الاستعمار والعنصرية.. ويبدو أنّ التحولات التي حدثت لاحقاً، والتجريم الذي صار يطال أولئك الذين يخوضون في مواضيع كهذه يمكن وضعه في ذات السياق الذي تحدّث فيه مالك؛ أي في دور القضية اليهودية نفسها في تكوين سياسات الغرب، وقوانينه، ونظرته العامة للأشياء.
اللافت في الكتاب، أنّه يمثّل تكملة ضرورية لشروط النهضة التي عمل عليها رحمه الله، فلا تكتمل شروطها دون وعي المجتمعات المستعمَرة بعوامل الخلل في الحضارة الغربية، إذ لا ينبغي الاكتفاء بمعرفة الجوانب المضيئة والإيجابية فيها، وفي ذلك يقول: “يتوجب على العالم الإسلامي أن يعرف وجوه النقص في الحضارة الغربية، كما سيتعرف عظمتها الحقيقية، وبهذا تصبح هذه الصلات والمبادرات مع هذا العالم أكثر خصباً..”.
وتحقيقاً لهذه المعرفة، قام بن نبي بما يشبه عملية تشريح لظاهرة الاستعمار وعلاقتها بوصول اليهود إلى أوروبا ودورهم فيها، معتبراً أنّ الحدث الرئيسي في أوروبا هو وصول اليهود كشخصية مستقلة عن الفكرة المسيحية، وهي الشخصية التي سيطرت على سائر تسلسل حضارتها. وهذا ما دفعه إلى تحليل الشخصية اليهودية نفسها، مفرّقاً بين اليهودي المثقّف، والمواطن، والمودرن، والمذهبي المتزمّت، واليهودي العالمي، واليهودي الذي رمى القناع.
على الرغم من إعجاب بن نبي بمجمل الجوانب الإيجابية للحضارة الغربية، إلا أنّه، وبعد أن عاصر بدايات نشوء الكيان الصهيوني، اعتبر وبكل وضوح أنّ قيام دولة “إسرائيل” في فلسطين مؤشّر على بدء انهيار الحضارة الغربية. ووضع هذه المسألة في سياق تلازم الاستعمار مع العنصرية في تكوين وتاريخ هذه الحضارة، وجعل هاتين الظاهرتين نتيجة للهيمنة اليهودية على مفاصل تلك الحضارة.. وقال عن تلازم العنصرية مع الاستعمار الغربي: “بغير العنصرية تكون الحرب عبارة عن غزو، كما في الغزوات القديمة التي كانت تغيب فيها العنصرية عن مدارك الغزاة. على العكس من الاستعمار الغربي، الذي أصبح استعماراً بسبب الثقافة الأوروبية ذات الخصائص العنصرية التي ابتكرت أسطورة الجنس الأبيض، ثم أبدعت أسطورة العنصر الآري، وحولت حروبها فيما وراء البحار إلى حروب استعمارية..”.
في نقاش النهضة، يأتي العمل على عوامل الضعف الذاتية على سلّم الأولويات، ولهذا أولى مالك اهتماماً كبيراً بهذه العوامل، وأشبعها بحثاً. لكن، ولأنّ السكوت عن العامل الخارجي ما هو في النهاية إلّا شكل من أشكال التضليل، حاول مالك تقديم الصورة كاملة، كما يراها هو، فوقع في الحدّ الفاصل بين الإسلاميين وخصومهم، وبين المستعمِرين والمستعمَرين، وحصد الأذى من بعضهم، والتهميش وسوء الفهم من البقيّة.
كاتب سوري