Site icon مجلة طلعنا عالحرية

ماري عجمي والثقافة الفاعلة في محيطها

المحامية منى أسعد

ولدت ماري عجمي في دمشق أواخر القرن التاسع عشر، بتاريخ 14 أيار سنة 1888 لأسرة من أصل حموي، وتوفيت في دمشق أيضاً بتاريخ 25 كانون الأول 1965. ما بينهما شقت هذه الشابة طريقاً مفعماً بالنشاط والدراسة والتعليم، دون أن ينفصل هذا النشاط عن نضالات تلك المرحلة الوطنيّة، خاصّة في مقارعة الاستبداد والمطالبة بالحريّة ورفع الظلم عن السوريين عامّة، والدفاع عن قضايا المرأة وحقوقها بشكل خاص، حيث كانت رافعة ومنارةً لنشر الثقافة والتنوير.

‏درست ماري في معهد “الفرنسيسكان” بدمشق، ثمّ تخرّجت من “المعهد الإيرلندي” عام 1903، ومارست التدريس لعام واحد، وهي الصبية التي لم تتجاوز ربيعها السادس عشر. بعدها ذهبت لدراسة التمريض في “الكليّة الأمريكيّة” في بيروت. لكنها، ولأسباب صحيّة، لم تكمّل هذه الدراسة، لتعود لمزاولة التدريس. وتنقلت بين الكثير من المدن والبلدان العربية؛ من زحلة في لبنان إلى بور سعيد والإسكندرية في مصر، مروراً بفلسطين والعراق، قبل أن تعود إلى دمشق مدرسة في معهد “الفرنسيسكان”.

كان التدريس مهنة لكسب العيش بالنسبة إلى عجمي، لكنها وهي الشغوفة بالأدب والكتابة والخطابة، كانت تطمح إلى أكثر من ذلك، واستفادت من انتشار مقالاتها وقصائدها في أغلب المجلات والصحف العربية التي كانت تصدر في ذاك الوقت، ليس في سوريا فحسب، بل في لبنان وفلسطين ومصر، لتأسيس أوّل صحيفة نسائيّة عربية باسم “العروس” عام 1910، والتي كانت تطبع في حمص بداية قبل أن تنتقل إلى دمشق، حيث اضطرّت للتوقف عام 1914 بسبب الحرب العالمية الأولى، لتعاود الصدور بعد انتهاء تلك الحرب عام 1918، واستمرّت حتى عام 1926.

رائدة في الدفاع عن قضايا المرأة:

كانت ماري عجمي سيدة موهوبة، فكتبت الشعر الكلاسيكي، وتناولت كغيرها من شعراء ذلك العصر القضايا الاجتماعية والسياسية والوطنية في فترتي الحكم العثماني والفرنسي، لكنها كانت رائدة في الدفاع عن قضايا المرأة، وكانت ثقافتها موسوعيّة، إذ درست إلى جانب العربيّة، اللغتين الروسيّة والإنكليزيّة، كما اهتمت بالترجمة، لكنّها ترجمت بتصرّف إن صحّ التعبير، كما كان شائعاً في ذلك الزمن، أو ما أطلق عليه التعريب. فعرّبت رواية بعنوان: “المجدليّة الحسناء” عام 1913، وترجمة لكتاب “أمجد الغايات” سنة 1927.

بالمقابل لم تطبع شيئاً من أعمالها الشعريّة أو النثريّة، خارج مجلتها “العروس” أو ما تنشره في باقي الصحف، والتي جُمعت مختارات منها بعد وفاتها وطبعت في دمشق مع مقدمة لـ”عفيفة صعب”، قال فيها الشاعر “خليل مردم بك”: “جمعت ماري بين الصناعتين النثر والنظم، فلها المقالات والخُطَبْ والقصائد، وعالجت الترجمة كما عالجت الإنشاء”.

وكان للسيدة عجمي نشاط ثقافي واجتماعي موازٍ للتدريس والكتابة والترجمة، فأنشأت معهداً لتدريس البنات، خارج المعاهد التابعة للبعثات التبشيريّة أو الدبلوماسيّة للدول الأجنبيّة. “دأبت في معهدها على غرس الحسّ الوطني الصحيح في نفوس الطالبات، وتوجيههنّ في الخط القويم، كما غرست في نفوسهن اليافعة، بذور مناهضة الحكم العثماني” كما ذكرت إيميلي نصر الله في كتابها “نساء رائدات”.

أسسّت عجمي مع زميلتها “نازك العابد” “النادي النسائي الأدبي” في دمشق، وجمعية “نور الفيحاء” وناديها، وأسهمتا بتأسيس أوّل مدرسة لبنات الشهداء عام 1920، وكانت العجمي عضو “الرابطة الأدبية” التي تأسسّت في دمشق أوائل العشرينيات، بل كانت المرأة الوحيدة فيها.

ألم الحياة الشخصيّة

الحياة الثقافية والنشاط الاجتماعي والوطني كاد يسيطر على كامل حياة ماري عجمي، حتى إنّ حياتها الشخصيّة تلاشت تحت وطأة تلك المهام والنشاطات العامّة، خاصّة وأنها ارتبطت بعلاقة مع الصحفي والمناضل “بيترو باولي”، من التابعيّة اليونانيّة، الذي كان مقيماً في بيروت، وعقدا خطوبتهما بانتظار الفرصة المناسبة للزواج. وكانت الكاتبة تطلق على خطيبها لقب “الباتر” نظراً لجرأته الأدبيّة والسياسيّة، فهو من مناهضي الحكم العثماني. ودخل السجن أكثر من مرّة بسبب كتاباته، لم تنقطع ماري خلالها عن زيارة خطيبها ومراسلته وهو داخل أسوار سجن “عاليه اللبناني” أو في “سجن دمشق”، خاصّة وأنهما اجتمعا على مناهضة الظلم والاستبداد العثماني، وبشكل خاص بعد فشل حملة “جمال باشا السفاح” التي عرفت بـ”سفر برلك”، حين لجأ إلى اضطهاد معارضيه واعتقالهم، فاعتُقل “باولي” في دمشق سنة 1915 مع غيره من الكتاب والصحفيين والساسة المعارضين، وكانت ماري تتحدّى الجنود والسجّان لتصل إلى حبيبها، تشجّعه وتشدّ من أزره، حتى بعد إعدامه في ساحة المرجة بتاريخ السادس من أيار 1916 الذي أصبح يعرف بـ”عيد الشهداء”. فرثته بقولها: “وكما يحتفل الفتى بزفافه هكذا احتفل هذا الشهيد بمشنقته. فما دعي إلى ارتقائها حتى صاح بشركائه فيها: هلموا أيها الإخوان إنها لأرجوحة الأبطال”.

بعد ذلك لم تتزوج ماري عجمي، ولم تكن وفية لخطيبها فقط، بل شمل الوفاء كل المبادئ والتطلّعات التي جمعتهما معاً، وتابعت بعد انتهاء الحكم العثماني رفضها للاستعمار الفرنسي، وقد سعت الكاتبة في كلّ نشاطاتها اللاحقة إلى تمثّل قيم النضال ومقاومة المحتل، والعمل على إيقاظ الروح الوطنيّة وبشكل خاص لدى النساء، لكن هذه القامة الشامخة التي لم يستطع أن ينال منها الحكم العثماني أو “جمال باشا السفاح”، وتصدت بأنفة للاستعمار الفرنسي ومخططاته في سوريا، ذوت مهملة في أخريات العمر، ولم تجد سلطة “البعث” و”حماية الأقليّات” أو اتحادها النسائي امرأة واحدة تسير في جنازتها التي اقتصرت على 16 مشيّعاً إلى مقبرة “الروم الأرثوذكس” في باب شرقي من دمشق.

كتبت عنها “إيميلي نصر الله” في كتاب “رائدات النهضة”، وكتب “ميشال جحا” كتاباً عنها جمع فيه جزءاً مُهمّا ممّا كتبته، وممّا قيل في هذه المناضلة التي بنت مجداً للمرأة السورية.

Exit mobile version