لأننا نعيش في زمن العولمة، تحول الربيع العربي إلى ظاهرة كونية، لكن هذا التحول لم يسر باتجاه نقل الحرية إلى عالم سبقنا في تجربة التحرر، بل بالعكس، توقف الربيع العربي في سوريا، وارتدَّ باتجاه معاكس نتيجة ثورة مضادة، قادها النظام السوري أولاً، وانضمت له كل الأنظمة العربية والإقليمية القلقة من تجربة التحرر الواعدة التي أطلقتها الشعوب، ونتائجها الكارثية على الأنظمة القائمة ومصالحها، ونتائجها السيئة المحتملة لـ”إسرائيل”، مثلما تحولت الثورة المضادة لتصبح عالمية خوفاً من الفوضى واللاجئين والإرهاب، وإن كانت في العمق لا تفعل سوى تعزيز الثلاثي المذكور أعلاه.
وصول ترامب لسدّة الحكم في أميركا هو انعكاس سياسي ناعم، للحرب الخشنة الدائرة في بلادنا، والتي أوصلت أبو بكر البغدادي لسدّة الخلافة في الموصل والرقة. وهي ولوج أولي في نتائج الربيع العربي الذي أغلق العالم أفقه في سوريا، وهو ما يمنحنا مشاركة عالمية تطرح إشكالية الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والسياسية بقوة على مستوى عالمي، وتجعل خيار الهروب من الحرية ومن تلك الالتزامات فيما يخصنا، مرتدّة نحو العالم الذي ساهم بشكل فعَّال في عزلنا ومنعنا من استكمال طريق التحرر الذي ابتدأ مع البوعزيزي. حيث يثبت خيار العزل ودعم الديكتاتوريات الذي اختاره أوباما بتزكية شعبية غربية، وانتشاء انتصاري لدى بوتين وخامنئي وبشار، دون أن ننسى فرحة الأنظمة الخليجية بتوقف الربيع العربي في سوريا رغم خيبتها اللاحقة.. يثبت خيار العزل إذاً أنه خيار فاشل وغير ممكن في زمن التعولم، ولاسيما أن خيار الحرية الذي اختارته شعوبنا لم يكن خياراً أيديولوجياً مخططاً، ولا خياراً مفروضاً بالقوة الخارجية الاحتلالية مثلما كان الأمر في العراق.
ونشاهد اليوم بالتتابع كيف أن الدول الأساسية التي مضت في طريق عزلنا، تتجه هي نفسها للانعزال القومي، والتي خافت من همجيتنا تتجه أكثر للهمجية ضدنا وضدّ نفسها. فما اختيار ترامب إلا اختياراً للهمجية التي تريد حماية نفسها من الآخرين “أمريكا أولاً” واختياراً للانغلاق بدل الانفتاح، والتعصب بدل التسامح، والواحدية بدل التعدد والاختلاف.
تنبأ كارل ماركس قبل قرن ونصف بأن الرأسمالية تحفر قبرها بيديها، وساهمت حلول الاقتصاديين الذكية منذ “كينز” بتأجيل تلك الجنازة، وقبل ماركس كان هيغل يعتقد أن المسار العقلي للتاريخ قد يسلك مسارات غير عقلانية ليحقق ذاته، وما نراه اليوم من لاعقلانية أوصلت ترامب للحكم، يجمع الاقتصاد والاجتماع والسياسة معاً، ليمضي ربما، وبطريقة ماكرة، نحو ما قاله ماركس؛ ففي ترامب والقوة الشعبية التي يعبر عنها والتي أوصلته للرئاسة، تجتمع المتناقضات بطريقة ساخرة وتراجيدية في آن، فهو رأسمالي كبير، لكن معادٍ لروح الرأسمالية القائمة على انفتاح الأسواق والتجارة الحرة والشركات متعددة الجنسيات، وهو يميل للانغلاق القومي ضداً على النزعة الامبريالية التوسعية للرأسمالية، وهو متعصب شعبوي للقوَّة والغنى ضداً على روح الكينزية التي أعادت تدوير الاحتكار الرأسمالي عبر الضعفاء و”البروليتاريا” أنفسهم. ومن انتخب ترامب، ليس الطبقات الوسطى/الدنيى الأكثر حاجة لتحسين الاقتصاد فحسب، بل هم فئات اجتماعية يتداخل فيها العرق مع الدين مع الغنى مع التعليم المتوسط مع أبناء الريف وكبار السن، ومن يثور ويتظاهر بغضب اليوم ضد ترامب هم الطبقات الوسطى “ليس البروليتاريا” وهم الملونون والمهاجرون والسود والأقليات والمثليون.. وهؤلاء جميعاً هم من ذكرهم وعوَّل عليهم هربرت ماكوز في كتابه “الإنسان ذو البعد الواحد” كفئات ستقود الثورات القادمة.
لقد عاشت الطبقات الوسطى الغربية خلال العقود الثلاثة الأخيرة نوعاً من التهميش السياسي الذاتي الناتج عن الوفرة والراحة المادية التي أمنتها دول الرفاه الرأسمالية، وهو ما أدى لكسلها وابتعادها وعدم تدخلها، كما عدم اهتمامها في السياسة، والتفاتها للفردانية والاستهلاك والمجتمع المدني والجامعات والسياحة والمشكلات الاجتماعية المابعد حداثية، وربما يأتي انتخاب ترامب كخضَّة سياسية تعيد تلك الفئات لساحة الفعل والتغيير، تلك الساحة التي بدأت بقضمها روح الانعزال القومي المتفشية في الغرب وممثليها السياسيين المختلطين يساراً ويميناً، والتي تقضم معها الحريات السياسية والعدالة الاجتماعية وقيم الديمقراطية التي تتراجع واحدة تلو الأخرى. وإذا أخذنا في اعتبارنا أن جزءاً مهماً ممن انتخب ترامب، هم من الأرياف والفقراء المتحمّسين للتغيير الاقتصادي والسياسي، سنجد أن هؤلاء هم أكثر من سيدفع ثمن وعيهم الزائف بالتغيير؛ فمن غير الممكن لرأسمالي يضع أولى أولياته تقليل الضرائب على الأغنياء والشركات الكبرى أن يُحسِّن من وضع الفقراء الذين انتخبوه، وبالتالي لن يطول الوقت قبل أن ينضم هؤلاء للفئات الوسطى المصدومة اليوم من الظاهرة الترامبية القابلة للتكرار في أوروبا.
مرة أخرى، ورغم كل الانقسام الحضاري الهنتغتوني، فنحن نعيش في عالم واحد أكثر من أي وقت مضى، والإغلاق الذي تم إحكامه علينا، انفتح ليصبح إغلاقاً على صعيد عالمي، ولذلك فإن الخيارات على مستوى الكبائر ليست واسعة، فإما ننحدر معاً لحرب ثالثة، أو نتشارك معاً أفق التغيير الذي بات اليوم ضرورة عالمية ضدّ تحالف المافيات والرعاع القائم.
ماهر مسعود، كاتب وباحث سوري، ماجستير في الفلسفة الغربية.