حدثت ضجة إعلامية مؤخراً بسبب قيام دولة الدنمارك في شمال أوروبا بوقف تمديد إقامات ثلاثمئة لاجئ سوري من أبناء دمشق وريفها، بغية التمهيد لترحيلهم وإعادتهم إلى مناطقهم في سوريا بحجّة أنها أصبحت آمنة. بالإضافة لهؤلاء هناك ستمئةٍ آخرين وُضعت ملفّاتهم قيد إعادة التقييم.
والأساس الذي تستند إليه الحكومة هناك هو تقييم داخلي توصلت إليه دائرة الهجرة، خلُص إلى أن الوضع الراهن في دمشق لم يعد يبرّر منح تصريحات إقامة جديدة أو تمديد القديمة منها، لأن الأعمال القتالية انتهت في المدينة وضواحيها منذ ثلاث سنين.
ربما لا يخلو قرار الدنمارك من تسييسٍ واستجابةٍ لأصوات يمينيّة متشدّدة في هذا البلد. كما يعتقد البعض أنه لا يخلو من رائحة تواطؤ مع النظام السوري والحكومة الروسية.
ولو قرأنا بين السطور في التقييم الذي انتهت إليه الدنمارك لفهمنا أن الحكومة هناك تأخذ بعين الاعتبار نجاح النظام السوري في إبعاد “الجماعات المسلّحة” عن محيط دمشق عن طريق المُصالحات، وبالتالي لم تعد قذائف “المتمردين” الطائشة تنزل على رؤوس المدنيين في العاصمة. فهل هذا هو حقّاً سبب بداية رحلة العذاب السوري في بلدان اللجوء؟ أم أن السبب هو نظام الأسد نفسه الذي ما يزال رابضاً فوق قلوب السوريّين؟
تتعارض الرؤية الدنماركية للأوضاع في سوريا مع تقييم المفوضية الأممية لشؤون اللاجئين بخصوص تطورات الأوضاع في هذا البلد. فسوريا ما تزال غير آمنة! ولذلك فقد تعرضت الدنمارك لانتقادات أوروبية وأممية، ووصفت منظمة العفو الدولية تحرّك الدنمارك بأنه “قرار مروّع وانتهاك طائش”.
لكن الخبر المطمئن اليوم، وبعد كلّ هذه الضجّة، هو أن الحكومة الدنماركية اكتفت بعدم تجديد تصريح الإقامة للأشخاص المعنيين، ولم ترحّل أحداً منهم، بل وتعّهدت أمام الضغوطات الخارجية بعدم القيام بأي عملية ترحيل قسري في المستقبل. وهذا الأمر يبعث مبدئياً على الاطمئنان لأن هناك عدداً صغيراً من المهدّدين بالترحيل مُعارضون مطلوبون للنظام، ومهددون بالاعتقال في حال عادوا إلى سوريا.
لكن بالمقابل، فإن كثيراً من المهدّدين بالترحيل قدّموا بالأصل سرديات ضعيفة حين حصلوا على الحق باللجوء. فحسب مكتب المحامي الدنماركي “نيلز إيريك” هانسن المختص بقضايا الهجرة، والذي تواصلتُ معه عبر الفيسبوك، فإن كثيراً من المهدّدين بالترحيل “قالوا إنهم هربوا من سوريا (فحسب) ولم يكونوا على معرفةٍ أنهم يجب أن يشرحوا وضعهم بالكامل.. قالوا نحن هربنا من سوريا والوضع سيء، وعلى هذا الأساس أخذوا الحماية”.
إذاً فعددٌ لا بأس به من المهدّدين بالترحيل حسب المحامي الدنماركي هم أشخاصٌ لم يقولوا كلمةً سيئة واحدة بحقّ النظام السوري، وجعلوا الحكومة الدنماركية تفهم أنهم جاؤوا يطلبون اللجوء بسبب كارثةٍ حلّت بحياتهم الخاصة فحسب، بحيث يبدو الأمر كما لو أنّ ما حصل في سوريا هو زلزال أو كارثة طبيعية ليس إلّا. ولعلّ السبب في هذا الفشل بتقديم رواية حقيقية لقصة هروب السوريين هو خوف الأشخاص المعنيين من النظام السوري؛ فمعظم الذين وصلوا أوروبا لهم أقارب بالداخل ولم ينبسوا ببنت شفة ضدّ النظام خوفاً من انتقام النظام من أقاربهم.
وهناك من اللاجئين السوريين في الدنمارك، وخصوصاً ممّن وصلوا البلاد بطريق لمّ الشمل، من يقومون بزيارة دمشق بين الفينة والأخرى بعد أن حصلوا على أوراق اللجوء، إذ لا شيء يمنعهم من ذلك، لا الحكومة الدنماركية ولا وضع خاص لهم في سوريا، فهم ليسوا معارضين للنظام إطلاقاً، وليسوا مطلوبين من أي بابٍ كان.
لقد سمعت من لاجئين ونشطاء في الدنمارك أن نقاشاتٍ حادّة تدور بين أبناء الجالية هناك بخصوص زيارة دمشق، أو حول امتناع البعض عن ذكر النظام بسوء، وهو ما رأى به النشطاء المعارضون تحديداً شيئاً من الطيش من طرف البعض والأنانية، وفي أحيانٍ أخرى مجرّد خوفٍ زائد.
فمثلاً، أخبرتني الناشطة السورية في الدنمارك “هيا ترمانيني” أن الكثير من بين الأشخاص المهدّدين بالترحيل يرفضون مكاشفة الحكومة الدنماركية بخشيتهم على سلامتهم الشخصية من انتقام النظام لو عادوا. فهم ما يزالون يخشون معارضة النظام بكلمة حتّى وهم في أحلك الظروف.
من الواضح أن السوريين عموماً لم تعد لديهم ثقة بالمجتمع الدولي، وصاروا يرون من العبث وضع بيضهم في سلّة أي دولة، لأن المجتمع الدولي لو كان صادقاً في مساعدة السوريين لما أبقى على اعترافه الضمنيّ ببشار الأسد وتعامله السرّي والمفضوح مع نظامه حتى اليوم.
تعتقد “هيا” أن على السوريّين في الدنمارك أن يتفقوا بين بعضهم أولاً أن سوريا ليست آمنة حتى يكون موقفهم أقوى في مواجهة قرارات الحكومة الدنماركية. وهي ترى ضرورة تشجيع السوريين هناك على التصريح بمخاوفهم من بطش النظام وانتقامه في حال تمت إعادتهم إلى سوريا. كما تشجّع هيا اللاجئين السوريّين نساءً ورجالاً على الاندماج أكثر في الحياة العامة، وخصوصاً لناحية اقتحام سوق العمل، فهذا من شأنه كما تظنّ أن يُضعف الأصوات المتطرّفة التي تنادي بترحيل السوريين من الدنمارك، ويقوّي موقف النشطاء والمنظمات الذين يعملون على مواجهة الإجراءات الحكومية الظالمة.
خرّيج قسم اللغة الإنكليزية – جامعة دمشق. حاصل على دبلوم الدراسات العليا من جامعة البعث في حمص، كاتب ومترجم من أعماله:
الفارس المزيّف- مجموعة قصصية.
أمريكا الامبريالية- (ترجمة عن الانكليزية)
عمل خلال الثورة السورية ناطقاً باسم لجان التنسيق المحليّة ومراسلاً لقناة أورينت وموقع كلّنا شركاء.
وفي عام 2014 عمل مراسلاً في وكالة مكلاتشي الأمريكية من اسطنبول.
يقيم الحمّادي في فرنسا منذ أواخر عام 2019 ويعمل ككاتبٍ وصحفي مستقلّ.