من أين تبدأ الكتابة عن المجزرة؟
من حصيلة ضحاياها؟ من عدد الغارات؟ من نوع السلاح المستخدم (كيماوي أم فيزيائي أم جهنّمي)؟ من عدد الجرحى وعدد من بُترت أطرافهم؟ من عدد البيوت التي خرّبت (مادياً أو معنوياً أو كليهما)؟ من تزامنها مع الذكرى السنوية الثانية لمجزرة سابقة في نفس المكان، والذكرى الثالثة لمجزرة أيضاً تسبق السابقة إلى الغرب من هذا المكان؟
ولماذا أصلاً -ولمن- تكتب عن مجزرة ليست الأولى ولن تكون الأخيرة (يوجد بلا شكّ ما يدلّ على ذلك)؟
بالقياس على المجازر السابقة فإن غاية طموح الشعب السوري -بعد الإدانة والشجب (والذهول هذه المرة)- هي تسليم الطائرة النفاثة التي قامت بالمجزرة!
ثم.. كيف توصل أي فكرة لمن لا يريد أن يستقبلها؟ أو لمن يفهم ما يريد هو مهما كان ما قلته أنت؟
نقول: “من الواضح أن بنك الأهداف عند قوات النظام محدّد بدقة. فكلّ الإصابات مؤكدة مئة في المئة. لدرجة أن يقع الصاروخ في الغارة الثانية بنفس المكان الذي وقع فيه سابقه في الغارة الأولى؛ كما في أساطير زورو وروبين هود؛ حين يشطر السهم الثاني عودَ السهم الأول. ليس هذا طبعاً مدحاً لمهارة الطيار (أو ربما الصاروخ الذكي!). فالعار الذي يجلّله لا تغطي عليه أي مهارة”.
وفي رواية أخرى: “نعم.. بالتأكيد.. غارات الطيران الحربي في دوما على أكبر سوق شعبي مزدحم بالفقراء والخضرجية هي ردّ على محاولة استهداف قوات معارضة من داخل الغوطة (تخرج ضدّها مظاهرات بالمناسبة) لمقرات أمنية في دمشق… دمشـقه هو!.. بل إنها ردّ على محاولة اقتحام أحد القطع العسكرية الجاثمة على طرف الغوطة لتصليها بنيران المدافع والصواريخ ليل نهار. اضطر النظام للرد. هو لا يريد قتل الناس.. “وهل هناك حكومة تقتل شعبها؟!” غريبون نحن! النظام المسكين يتعرض لمؤامرة كونية ويدافع عن نفسه. هكذا من دون سابق ترصّد، وجد نفسه مجبراً أن يقصف في يوم واحد أربعة أسواق شعبية في الغوطة، تغصّ بالكادحين والأطفال والشحاذين في كل من سقبا وحمورية وكفربطنا ودوما، بعد يوم من قصف سوق في إدلب وقبل يوم من قصف سوق في درعا.. وقبل أربعة أيام من معاودة قصف نفس السوق في دوما. كلها مصادفات! أو أن الأهداف كانت مواقع عسكرية لكن الصواريخ والقذائف أصابت -بالخطأ- أماكن تجمّع المدنيين”.
بالكلام عن الضحايا ومن غير أرقام: هناك شهداء تم توثيقهم بالاسم، شهداء مجهولو الهوية، جثث مشوهة.. و… أكوام كبيرة من الأشلاء!
ورد في شهادة أدلى بها طبيب من المكتب الطبي الموحّد في الغوطة الشرقية لطلعنا عالحرية: “لم تستطع النقاط الطبية في دوما استيعاب الجرحى فتمّ نقل جزء منهم لباقي المشافي والنقاط الطبية في الغوطة. بعضهم استشهد هناك. في دوما وحدها افتتحت تسع قاعات عمليات بنفس الوقت. بعض الزملاء اضطروا لإجراء جراحات على طاولات مؤقتة في الممرات بين غرف العمليات..”، ويتابع: “أعطيك مثالاً لتتخيل حجم العمل في يوم واحد: منذ حوالي 7 أو8 أعوام حدث زلزال في تركيا. كان عدد الجرحى مماثلاً لما هو عندنا (أكثر من 500 جريح) لكن كل الدولة التركية استنفرت، وهي غير محاصرة، وجاءتها مساعدات من عدة دول: طائرات بمشاف ميدانية مجهزة بالكامل، مع أطقمها الطبية واللوجستية وأطباء من مختلف التخصصات. ثم يعقّب الطبيب: “الضربة اليوم أسوأ من ضربة الكيماوي بدرجات”.
ليس بعيداً عن الطبيب الذي أنهكه التعب النفسي ربما أكثر من الجسدي، خاصة بعد أن أجرى في يومين ثقيلين عمليات جراحية بعدد ما يجريه زميل له في سنة!
وصل الرجل النقطة الطبية ليتبرع بالدم، وجد امرأة على باب النقطة تحتضن شيئاً وتولول.. أجابت بشتيمة -له ولجلالة المذكورين- على طلباته لها: “صلي على النبي يا أختي” أو “وحدي الله يا حرمة”، فشتمها بدوره وزجرها. فسكتت. انكشف اللحاف عن ما في يدها ليرى طفلاً ميتاً. حوقل واستغفر، وعاد يحدثها:
– “خير يا أختي؟”
– “ابني!..” وعادت للعويل والصراخ. سحبه من يدها فناولته إياه، لكنها بعد لحظة عادت وضمّت الطفل إلى صدرها وطمرت رأسها وغابت فيه.
انشغل حصّة بغيرها، ولما عاد رآها تقول: “خذوني لبيتي”. بادر مجدداً: “وين بيتك أختي؟ أنا أوصلك”. وهو يؤمنها في سيارة شهم آخر سمعها تندب من جديد: “شو بدي قول لزوجي؟ قال لي لا تاخدي الولد معك عالسوق”!
*********
في اليوم التالي لاستهداف السوق أيضاً استمر القصف، بالطائرة الحربية وبالمدافع والصواريخ. في المساء يقول أحد المسعفين: (الحمد لله.. اليوم فقط خمسة شهداء)!
يزيد المصيبة أن تستطلع آراء المحللين فيها، فترى أن المجزرة أيضاً -كما كل حدث- هي فرصة لكل ذي رأي للتدليل على صواب رأيه؛ “النظام استعاد حيويته والقبول الدولي به، فاطمأن فازداد وحشية” إلى: “النظام في أضعف حالاته، ما نراه هو التخبط الأخير للوحش الجريح اليائس”. إلى من يدلّل بالمجزرة على عدم وجود إله قادر خلق هذا الكون ويعرف كل ما يدور فيه. مقابل من يجد أنها مدّ الخالق للظالمين وامتحان آخر للمؤمنين.
من الفضائل القليلة للحصار وغياب الكهرباء والاتصالات أنها تعفي المفجوعين في دوما اليوم من قراءة آراء المحللين واستنتاجاتهم عن سبب هذه المجزرة أو توقعاتهم عن مفاعيلها.
ناشط وصحافي، رئيس تحرير مجلة طلعنا عالحرية، ومدير مكتبها في دوما / الغوطة الشرقية سابقاً، إجازة في الآداب من جامعة دمشق قسم اللغة الإنكليزية، مدير مكتب الحراك السلمي السوري في ريف دمشق.