ما جرى ويجري في حلب هو جريمة موصوفة؛ هي جريمة التهجير القسري، وتعريفاً هو: “ممارسة تنفذها حكومات أو قوى شبه عسكرية أو مجموعات متعصبة تجاه مجموعات عرقية أو دينية أو مذهبية، بهدف إخلاء أراضٍ معينة وإحلال مجاميع سكانية أخرى بدلاً عنها. ويندرج ضمن جرائم الحرب وجرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية” وفق قاموس القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني.
ويعرّف القانون الدولي الإنساني التهجير القسري بأنه: “الإخلاء القسري وغير القانوني لمجموعة من الأفراد والسكان من الأرض التي يقيمون عليها” وهو ممارسة مرتبطة بالتطهير وإجراء تقوم به الحكومات أو المجموعات المتعصبة تجاه مجموعة عرقية أو دينية معينة، وأحياناً ضد مجموعات عديدة بهدف إخلاء أراضٍ معينة لنخبة بديلة أو فئة معينة”، وتعتبر المواد (6)، (7)، (8) من نظام روما الأساسي، التهجير القسري جريمة حرب.
وهذا ما ينطبق عليه وصف ما يجري في حلب تماما، حيث قامت الميليشيات المتحالفة معها بحصار حلب لأشهر عديدة ومنعت الطعام والدواء، وأكملت طائراتهم وطائرات المجرم بوتين بتدمير البنية التحتية كاملة من مخابز ومستودعات طعام ومستشفيات ومدارس، وقتلت الآلاف من المدنيين معظمهم من الأطفال والنساء في بيوتهم، ووضعت الجميع أمام خيار الهجرة عن مساكنهم وبيوتهم. ثم حاولت تحت ستار حفظ الأرواح فتح ممرات ليسلكها السكان في مغادرتهم وسلطت ميليشيات الأسد وحلفائه ليصطادوهم خلال هذه الممرات، في جريمة قتل مكشوفة وأمام كل العالم الذي كان يراقب اكتمال كل أركان الجريمة دون أن يحرك ساكناً، وعندما قرر التحرك واجتمع مجلس الأمن ليناقش الوضع في حلب أصدر قراره رقم 2328 الذي نصّ على رصد محايد والمراقبة المباشرة على عمليات الإجلاء من شرق أحياء حلب ومناطق أخرى من المدينة، وتقديم تقرير حسب الاقتضاء في هذا الشأن، لضمان نشر المزيد من الموظفين لهذه الأغراض حسب الحاجة. أي أن المجتمع الدولي قرر المشاركة بفاعلية في هذه الجريمة ومراقبة تنفيذها عن كثب وتقديم الحماية والغطاء القانوني لها، ولم يفكر أي أحد ممن صوّت على القرار بالإشارة إلى الجريمة أو مرتكبيها أو محاولة وقفهم عن ذلك على الأقل، إن لم نقل معاقبتهم على هذه الجريمة الواضحة بكل المعايير القانونية والأخلاقية.
بذلك أصبحت كل دول العالم مشاركة في جريمة التهجير القسري التي تجري في سوريا، الدول التي تقوم وتشارك في هذه الجريمة مباشرة عبر وجود قواها العسكرية على الأرض كإيران وروسيا، والدول التي تنتمي للتحالف الدولي كأوروبا وأمريكا وغيرهما والدول التي لديها قوى عسكرية على الأرض، وتبرم الاتفاقيات لتسهيل التهجير ونقل السكان كتركيا، والدول التي صوتت على قرار مجلس الأمن والمنظمات الدولية التي ترعى الاتفاقات وتقدم التسهيلات اللوجستية والدعم لنقل السكان، كهيئات الأمم المتحدة ومنظماتها. بل إن هذه المنظمات هي أول من بشر بهذه الجريمة عن طريق مجرمها ستيفان ديمستورا وهو يبشر ويدعو لتنفيذها في مختلف المناطق السورية بحيث ينجح المجرم الأساسي زعيم الميليشيا الكبرى أن ينفذ جريمته ويطهر الأرض التي يستولي عليها بالعنف الوحشي.
ما جرى ويجري في سوريا هو سقوط كامل لكل النظم الإنسانية، وانهيار مدو للهياكل التي عمل العالم طويلاً على إقامتها لتحمي الإنسان وتعطي معنى قانونياً للإنسانية.
ما يحصل في حلب هو جريمة مكتملة الأركان لتهجير قسري للسكان المدنيين فيها، الفاعلون فيها معروفون علناً، ويعلنون بكل صفاقة ووقاحة عن جريمتهم، ويصرحون علناً عن أهدافهم بتهجير كل السكان. والمشاركون بهذه الجريمة يقدمون كل ما يمكنهم لتنفيذ هذه الجريمة تحت عنوان إنساني هو حفظ الأرواح؛ فيقومون بالضغط على السكان الأصليين وتقديم كل ما يمكنهم لجعل هذه الجريمة ميسرة وقابلة للتنفيذ، ويقدمون الاقتراحات للأماكن التي سيتم التهجير إليها، ويسهلون الممرات التي سيتمّ التهجير خلالها، ويقومون بما يلزم لتأمين الغطاء لهذه الجريمة وضمان السكوت عنها. والجميع متورط تماماً بهذه الجريمة مثله مثل المجرم، ولا يمكن تغطية هذا الإجرام الدولي تحت أي ستار إنساني كحفظ الأرواح، أو غطاء قانوني كقرار يصدر عن مجلس الأمن.
الأصل أن يكون العمل على محاكمة المجرم، أو على الأقل وقف إجرامه ومنعه من ارتكاب مزيد من الجرائم، لا مساعدته على الإفلات من العقاب وتسهيل ارتكابه مزيداً من الجرائم!
وإذا كان قانون محكمة الجنايات الدولية لا يطال بعض المجرمين الآن، فإنه يطال المجرمين الآخرين الذين صوتوا على القرار المذكور وشاركوا في الجريمة، ويجب أن نسعى بكل ما يمكننا لمحاسبتهم ومعاقبتهم، فالعدالة لن تنسى.
رئيس المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية، محرر قسم حقوق الإنسان والمجتمع المدني في مجلة طلعنا عالحرية