الخارجُ موحشٍ إلّا من الذّكريات، يستيقظُ المُهجّرون يوميًّا من حلمِ العودةِ إلى واقع الخبز، يتلُوْنَ صلاةَ الحنينِ ويمسكون بأبنائهم صغارًا يزرعون فيهم جذور الحنين لما يجهلونه، حنينٌ لبلادٍ خلفَ السّياج الشّائك، وربّما خلف البحرِ، الأبناءُ سيرضعون الشّوق من أثداء أمّهاتٍ ثكالى لن تبُحنَ بثكلهنَّ إلا لتزرعنَ في أبنائهنَّ عطش الرجوع، سيشربونَ الحنينَ في كؤوس كُتبَتْ عليها أسماءُ المدنِ والشّوارع، وسيأكلونَ صورَ البيوتِ المنتظرةِ هناك، والتي ربّما لن تكون موجودةً وقتها، إلّا أنّهم سيكبرون متشبّثينَ بالعودة.
الدّاخلُ موحشٌ إلّا من النّسيان، وحدهُ نسيانُ ما جرى في الحرب خلاصُ من ظلّوا هنا، ووحده الحلّ الأخير ليكبر الجيل الجديدُ حيًّا عاريًا من دماءِ من سبقه، الحقيقة نسبيّة لا مطلقة، والخطأ صوابٌ عند الآخرين، تحملُ الأمُّ ذاكرتها كلّ يومٍ وتغسلها على المغسلة لتُسقط عن وجهها وجعَ الأمس، تخترع ذاكرةً جديدةً تمنحها لأبنائها، ستحكي لأبنائها أنّ أباهم الذي قُتل في الحربِ سافرَ إلى السّماء بعد أن صنعَ لهم حياةً جميلةً، ستخترع مهنةً جميلةً له، وستحدّثهم عن رسائل كان يكتبها لهم دائمًا، وستخفي أخرى قصّة اعتقال زوجِها، وستُنكِر ثانيةٌ قصّة اختطافه واختفائه، جميع الأبناء سيعرفون أن آباءهم ماتوا ميتات طبيعيّة، وإن تعدّى الأمر هذه الميتة، فسيعرفون أن آباءهم ماتوا أبطالًا وهم يقاتلون العدوّ ويدافعون عن أرضهم.
للخارجِ قصّة، للداخلِ قصّة، ولكلا القصّتين مبررات أخلاقيّة، هناك في البعيد خارج البلاد، سيعرفُ الأبناءُ كلّ شيءٍ جميل عن بلادهم، وكلّ شيءٍ قبيحٍ عن الحربِ، وسيرث الجيل القادمُ وجَع النّزوحِ ليتشبَّث بالعودة، أمّا في الدّاخل، فلا يحتاج الجيل القادم كي يعيش إلّا لأن ينسى أهلوه وجعهم من أجل أن يعيشوا، ويمنحوا الحياة لأبنائهم!.
شاعر وكاتب صحافي من سوريا – فلسطين.
رئيس تحرير صحيفة “أبواب” ومحرر القسم الثقافي سابقاً في مجلة “طلعنا عالحرية”. صدر له في الشعر “سيرًا على الأحلام” 2014 عن دار الأيام – الأردن، وله كتابان قيد الطبع في الشعر “لم ينتبه أحد لموتك” و”لابس تياب السفر” في الشعر المحكي. يكتب في العديد من الصحف والمواقع العربية والألمانية. ترجمت نصوصه وقصائده إلى لغات عديدة كالإنكليزية والألمانية والبوسنية. يعيش في ألمانيا منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2014 بعد استضافته من قبل مؤسسة الأديب الألماني “هاينرش بول” في منحة تفرّغ إبداعي للكتابة.