باتَ من المعروف أنَّ المعارضة السوريّة معارضاتٌ عديدة، بعضها يتقدّم وبعضها يتراجع. ويساعدنا “سؤال التقدّم” هذا على اختزال المعارضة السوريَّة إلى معارضتين عموماً: “المعارضة الجهاديَّة والمعارضة المعتدلة”. وعلى الرغم من التداخل بينهما والتشرذم فيهما، يبقى الخط الفاصل بينهما يكمن في مشاريعهما السياسيّة وأدوات هذه المشاريع وحاملها. فالأولى تريد دولة إسلاميّة عابرة للحدود الوطنيَّة بواسطة الجهاد، والثانية تريد دولة وطنيَّة تلتزم حدودها بواسطة التظاهر و”الجيش الحرّ”.
وسؤالنا عن تقدّم المعارضة الجهاديّة وتراجع المعارضة المعتدلة سؤالٌ تتعلّق إجابته بالعدد والعتاد والتنظيم والميدان؛ فهذه مسائل قابلة للقياس. وطالما أنَّ التقدّمَ تقدّمٌ في الإنتاجيّة كما هو تقدّمٌ في التدمير، أي بدون شحنات إيجابيّة أو سلبيّة، يمكننا إجراء مقارنة بين المعارضتين؛ لمعرفة عوامل تقدّم الأولى والأخذ بها حتى تتقدّم الأخرى. فالأمر إذاً يتعلق بالتفكير في غير الـمُفكّر به قبل الآن؛ ما لم نكن نريد أنْ نراه أو لم نكن نستطيع رؤيته للتعلم منه.
ليس تقدّم “المعارضة الجهاديّة” أمراً عابراً، بل أصبح ظاهرة يجب التوقّف عندها مثلما يجب التوقّف عند ظاهرة تراجع “المعارضة المعتدلة”. فالوقائع تشهد مثلاً بتقدّم “جبهة النصرة” و”جيش الإسلام” و”حركة أحرار الشام الإسلامية” و”تنظيم الدولة الإسلامية” الصادم والمفاجئ… تقدّماً لافتاً على مدار أربع سنوات تقريباً، وتشهد كذلك على تراجع “إعلان دمشق” و”الإخوان المسلمون” وثم “الجيش الحرّ”، اليد الضاربة للمعارضة المعتدلة، و”المجلس الوطني” وبعده “ائتلاف قوى الثورة والمعارضة السوريّة” و”الحكومة المؤقّتة” و”هيئة الأركان” و”المجالس العسكريّة”…
وللمقارنة نجد مثلاً أنَّ “الجولاني” عاد ومعه ستة أشخاص إلى سوريّة في الشهر الثامن من عام 2011، وهو عام انطلاق الثورة. وأعلن عن تشكيل “جبهة النصرة” في شهر 12 من العام ذاته عندما كان السوريّون المعتدلون يملؤون الساحات والشوارع في درعا والغوطة وحمص وحماة وأدلب بتظاهراتهم واعتصاماتهم، ناهيك عن الـمُتفرّقة منها في دمشق وحلب واللاذقية والسويداء. أما الآن فنلاحظ تقدّم “جبهة النصرة” بعددها وعتادها وتنظيمها والمناطق التي تديرها وتسيطر عليها وتحوّل أعداد كبيرة من المعتدلين إليها. ونرى “الجولاني” الآن لاعباً أساسياً في سوريّة يرفض “مؤتمر الرياض” ويقرِّر كما “لافروف” عدم وجود “الجيش الحرّ” وهو صاحب مقولة “الوطنيّة صنم”!
وسيرة “زهران علوش” قريبة من سيرة “الجولاني” وقد تقدّم “جيش الإسلام” كما تقدّم غيره.
في الحقيقة، تصبُّ غالبية الإجابات عن سؤالنا هذا في خانة المؤامرة والدعم الماديّ المتفاوت وأجنداته والظروف والمظلوميّة والتدخّل؛ أي على ما هو خارجيّ، وهي إجابات صحيحة نسبياً. ولكن الغائب والمسكوت عنه في مثل هذه الإجابات هو العوامل الذاتيّة المرتبطة بفهم الواقع والعمل فيه. ويتمثّل مضمون فهم الواقع عندهم بخمسة نقاط كُتِبت ونـُظِّر لها في وقت سابق لقيام الثورة السوريّة، وهي بمثابة بعض “الشروط الابتدائية” التي قامت إبانها الثورة:
1- انعدام القطبيّة الدوليّة: التقطت المعارضة الجهاديّة مبكّراً هذه المسألة لما لها من تداعيات على الثورة السوريّة لصالح عدم قدرة الدول على الحسم، وعدم نيّتها التدخل البريّ تحسباً للاستنزاف العسكريّ والاقتصاديّ، وعدم مراهنتها على الحلِّ السياسيِّ. وهذا يعني أنَّه لا رأس للعالم قادر على صياغة الحالة العالميّة الجديدة منفرداً أو على شكل شلّة. وهذا يؤكد الحل بالتشارك لا بالإقصاء والإخضاع. أما المعارضة الأخرى فما زالت تعتقد وتراهن على القطبية الدوليّة ودورها في الحسم وتستجدي التغيير من المجتمع الدوليّ استجداءاً!
2- الفوضى: بالإضافة لاستراتيجية “ما بعد الحداثة” الدوليّة المتجسّدة في “لفوضى الخلاّقة”، عملت المعارضة الجهاديّة، كما النظام السوريّ، على إحداث الفوضى للاستفادة منها كمعطى واقعيّ يتيح المجال السياسيّ لها لممارسة نواة الحكم “الإسلاميّ” بعدما جعل النظام غالبية مناطق سوريّة بحاجة للأمان والغذاء. فحسب “عبدالله بن محمد” في “المذكّرة الاستراتيجيّة” المكتوبة سنة 2011، إنَّ السورييّن سيحتاجون الأمان والغذاء أساساً؛ ومن يوفّر لهم الحدّ الأدنى منهما يقودهم؛ عملاً بمبدأ من اشتدت وطأته في حماية الناس وتوفير حاجاتهم الأوليّة وجبت طاعته في ظل الفوضى. بينما تعيش المعارضة المعتدلة أحلاماً ورديّة عن إسقاط النظام وتعاند واقعية الفوضى بالشعارات.
3- “إدارة التوحّش”: توقعت المعارضة الجهاديّة مرحلة خروج بعض المناطق عن سيطرة النظام منذ 2004 حسب “أبي بكر ناجي” في كتابه “إدارة التوحّش”، وعملت عليها. واستطاعت أنْ تدير مثل هذه المناطق لجاهزيّتها النظريّة والعمليّة. بينما تفاجأت المعارضة المعتدلة بإخراجها بعض المناطق عن سيطرة النظام فاقترحت وشكلّت “المجالس المحليّة” لإدارة هذه المناطق وفشلت بتأمين الأمن والحاجات الضروريّة وألقت باللّوم على العالم المتخاذل وعلى بطش النظام وندبت حظها العاثر.
4- التدخّل: أقرت المعارضة الجهاديّة بموضوع التدخّل كتحصيل حاصل في سوريّة ولعبت على مفارقاته؛ فاستجلبت واستقطبت المقاتلين معها وعملت على إنهاك الدول والمنظمات التي تدخلت ضدها. بينما اعتبرت المعارضة المعتدلة التدخل في الشأن السوريّ من الكبائر وكأنها تعمل في الفراغ وبدون شروط ابتدائيّة.
5- محددات العقل السياسيّ: أخذت المعارضة الجهاديّة تحديدات “الجابري” للعقل السياسيّ بـ”القبيلة والغنيمة والعقيدة” على محمل الجدِّ. فاستثمرت العقيدة الإسلاميّة بغض النظر عن مضمونها لتحريك السورييّن في سياق أجندتها واستنهاض “المخيال الاجتماعي” المليء بالرموز والتشبيهات، واتكأت على “اللاشعور السياسيّ” وعلاقة الراعي بالرعيّة. فشكلت ما يسميه “ابن خلدون” عصبيّة جديدة أو قبيلة روحيّة تعاضد بعضها البعض. واستخدمت الغنيمة لإغراء الناس وغنمت السلاح والمواد الأوليّة والمعابر الحدوديّة والمصارف المركزيّة والآثار لتحقيق منعتها الماليّة. بينما نظرت المعارضة المعتدلة إلى هذه التحديدات بوصفها تحديدات تراثيّة لاواقعيّة أكل عليها الدهر وشرب.
باختصار شديد نقول: أطاعت المعارضة الجهاديّة الواقع فأطاعها. وهذا درس يجب أن تتعلمه المعارضة المعتدلة حتى تقوم من جديد للوصول للتشارك في الحلِّ بين مختلف الأطراف المحليَّة والإقليميّة والدوليّة بفضل الفهم الجديد للشروط الابتدائيّة.
شوكت غرز الدين، كاتب سوري، ماجستير في فلسفة العلوم، الايبستمولوجيا.